في الحلقتيْن الماضيتيْن تمّ تسليط الضوء على صفحات من تاريخ المرأة المسلمة المشرق المُعتّم عليه من قبل بعض مؤرخينا المعاصرين، والذي بيّن لنا مدى مساهماتها في بناء الحضارة الإسلامية والنهضة العلمية ونبوغها في مختلف العلوم من حديث وفقه وأدب ونقد أدبي وطب وفلك ورياضيات وعلوم فضاء، وكان يفد إليها طلاب العلم من كل مكان، وكان يحضر مجالسها علماء وفقهاء ومؤرخون وحكام، وقد تتلمذ عليها الكثير من العلماء منهم الأئمة الشافعي وأحمد بن حنبل، وابن تيمية والسيوطي وابن حجر العسقلاني وغيرهم كثير، ومع هذا نجد معدي مناهجنا الدراسية مصرين على إقصاء المرأة من المشاركة في الحياة العامة بقصر مجالات عملها في تطبيب وتمريض بنات جنسها، وتقديم الخدمات الاجتماعية لهن، وربط هذا العمل بإذن الزوج وموافقته، أو بإذن الولي، وأدلتهم في ذلك، آية (وقرن في بيوتكن). وهذا استشهاد ليس في محله، فالآية خاصة بأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وليس لعموم النساء؛ إذ اقتطع معدو المنهج الآية من سياقها ليجعلوا الآية تلزم عموم النساء القرار في بيوتهن، وعدم خروجهن للعمل، فعند الاستشهاد بآيةٍ يجب عدم تجريدها من سياقها ليستقيم فهم الآية فهمًا صحيحًا، فإذا أعدنا قراءة الآية طبقًا لسياقها نجد أنّ إلزام القرار في البيت خاص بنساء النبي رضوان الله عليهنّ (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا .وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:30-33]. واضح من السياق أنّ الخطاب في الآية لأمهات المؤمنين التي توضح خصوصيتهن. البعض يقول إن كان أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ملزمات بالقرار في بيوتهن فمن باب أولى أن يلتزم بهذا سائر نساء الإسلام، وأقول هنا لو كان هذا الإلزام يعم النساء أجمعين لجاء الخطاب الإلهي بذلك، ولما قصره على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فالله الخالق الأعلم بشؤون خلقه، وتدبير شؤون الكون، وبما زوّد خلقه ذكورًا وإناثًا بقدرات ومهارات لعمارة الكون وخدمة البشرية، وقد زوّد الله الإناث بقدرات ومواهب ومهارات تُفيد البشرية وتطوّرها، وإلزام المرأة القرار في بيتها يؤدي إلى حرمان البشرية ممّا ستقدمه المرأة للبشرية من إنجازات واكتشافات علمية؛ لذا فلقد حمّل الله المرأة أمانة الاستخلاف مثلها مثل الرجل لعمارة الكون، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنّ الحكم على المرأة بالحبس في بيتها، ولا تخرج منه إلّا للضرورة وبإذن زوجها، وإلزامها بالتفرّغ لخدمته، يخالف ما أجمع عليه جمهور الفقهاء بأنّ خدمة الزوج لا تجب على الزوجة، وقصر مجالات عملها إن اضطرّت للخروج للعمل في تدريس وتطبيب بنات جنسها وتقديم الخدمات الاجتماعية لهن، يتنافى مع عدل الله، فهو اجتهاد بشري من بعض الفقهاء دون الاستناد على نص شرعي من القرآن والسنة الصحيحة، ويتنافى مع ما مارسته المرأة المسلمة من مهن وما حققته من إنجازات علمية في مختلف العلوم من عصر النبوة، وعصور متعاقبة، ويتنافى أيضًا مع رؤية المملكة 2030، فما أورده معدو المنهج فيه ظلم للمرأة، ويحرمها من العيش حياة كريمة مع الحفاظ على كرامتها برهنِ حياتها ومستقبلها بموافقة أب قد يتوفى في أية لحظة، أو يتزوّج بغير أمها، وتمنعه زوجه من الإنفاق عليها، حتى الأخ لم يلزمه معدو المنهج بالإنفاق عليها، أو يعلق مستقبلها بزوج قد يطلقها في أي وقت، ويقذف بها في الشارع بلا مأوى، ولا نفقة، وقد يهجرها، أو يتزوّج عليها، ويتركها كالمعلقة، ولا يُنفق عليها ولا على أولادها، أو قد يُصاب بمرض عضال، ولا يستطيع العمل، أو يتوفى في مقتبل العمر، ولم يترك ما يساعدها وأولاده على ما يعيشهم، فيعيشون في فقر وضنك على صدقات المحسنين والضمان الاجتماعي، بينما لو مُنحت حق اختيار التخصص العلمي الذي تريد ومجال العمل الذي يتناسب مع قدراتها ومهاراتها ومواهبها لاحتلت مكانة اجتماعية مرموقة، وربما كانت عالمة ومخترعة، أو في منصب قيادي رفيع نفعت البشرية، وعاشت حياة كريمة بعزة وكرامة دون ذل وإذلال، فأرجو من معدي مناهجنا الدراسية رفع وصايتهم عن المرأة التي ألحقوها زورًا بشرع الله!