كلنا يعرف قصة ذلك الكفيف الحكيم الذي كان يخرج من داره ليلاً وبيده سراج ينير به ما حوله، وعندما كان يصادفه الجاهلون والفضوليون ويسألونه: لِمَ ترهق نفسك بحمل هذا المصباح وأنت رجل أعمى؟!، كان يرد عليهم بالقول: أحمله كي لا يصدمني المبصرون، هذه هي المنفعة التي لا ترونها!!. يا لها من حكمة عميقة بليغة.. وياله من منهج ربما نحفظه عن ظهر قلب، لكن قلة قليلة منا هم من يعملون به؛ فيحملون مصباح العقل أينما ساروا في دروب ومسالك الحياة كي لايصدمهم الجاهلون.. وما أكثر الجاهلين!. لا شيء يستنزف الانسان ويضعف قواه مثل حروبه واقتتالاته اليومية الصغيرة والمنهكة.. تلك المعارك والجدالات والنقاشات العبثية التي لا طائل منها.. وتلك الاحترابات والنزالات شبه اليومية التي تستنزفنا وتحمّلنا ما لا طاقة لنا به من الضغوط والأثقال النفسية.. تلك الحروب الأليفة التي يمكن لنا تجاوزها بقليل من العقل والتغافل تقتل من البشر يومياً أكثر مما تفعل الحروب التقليدية. يقولون تبدأ الحكمة حين يتوقف الجهل، فتوقَّف عن (تسمين) و(تعليف) الجهل من حولك ..لست مجبراً على خوض هذه الاستنزافات المميتة.. لا تحاور كل السذّج.. لا تجب عن كل الأسئلة.. لا تلتفت لعشاق الجدل.. أعرض عن الجاهلين، انتبه من تلك الشخصيات البوليسية التي تدس أنفها في كل شيء، ومن تلك الشخصيات البيزنطية التي تدخلك في موجات لا نهائية من الجدل العبثي والعقيم، هؤلاء في الواقع لصوص، يستنزفون طاقتك وأفكارك ووقتك وايجابية روحك، لا تهتم لهم، ابحث عن الإيجابيين، واهتم بالنقد المتوازن البنّاء الصادر عن العقلاء. نحن ياسيدي نعيش زمن السطحية، الذي ازدادت فيه الهوامش وضعفت المتون.. زمن التواصل الظاهري الذي تعاظمت فيه مواقع التواصل؛ وتناقص الاتصال الإنساني إلى حدوده الدنيا.. فلا تشغل نفسك بالتوافه..بل تغافل.. فإذا كان التغافل في أزمنة سابقة يمثل تسعة أعشار العقل فإنه اليوم يمثل العقل كله.. سيقال عنك ما ليس فيك.. وسيقال لك ما لا تحب وسيقال عنك وحولك ما لم يخطر لك على بال وسيقال على لسانك ما لم تقل وما لم تفكر فيه أصلاً، سيصطدم بك الجاهلون في كل اتجاه، فارفع مصباح وعيك كما فعل ذلك البصير.. كي يروا نور عقلك ولايصطدموا بك.. وقل سلاماً. (خذ العفو وأْمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين)، منهج رباني اجعله قاعدة لحياتك.. واعلم أنه بقدر توهج عقلك سيعاديك الجاهلون، وبحجم نقاء سريرتك سيهاجمك الملوثون، وعلى مقدار تسامح عواطفك للإنسانية سيحاربك المتعصبون.. لا تحاول الرد على كل إساءة فهذا منهك بل قاتل.. ولا تتعامل مع ما يدور حولك بحساسية مفرطة فالناس ليسوا سواء.. واصل طريقك.. وتذكر أنك مهما فعلت، فلن تستطيع منع الناس من الحديث، لكنك تستطيع بكل بسهولة أن تمنع نفسك من التأثر بما يقولون؛ ذلك لأن مفتاح عقلك بيدك أنت، لا بألسنتهم ولا بأفواههم! حروبنا الصغيرة قد تكون حتمية في بعض الأحيان.. لكن المهم هو أن نعرف كيف نديرها، حتى لا نكون نحن أكبر ضحاياها.