كان الرّجل في الجاهليّة يتباهى بجهله ويفتخر بطيشه ، ونزعاته العدوانيّة، ويعلن ذلك أمام الملأ كمصطلح اجتماعي في سياسة التّعامل مع الآخر ، وهذا لم يمنع الشّاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم أن يعِّبر عن ذلك في أرقى قلائده الشّعرية ، وهي معلقته إذ يقول : أَلَا لا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَل فوقَ جَهْل الجاهلينا ويدعو شاعر آخر إلى النّزعة العدوانيّة في التّعامل وتحكيمها كمقياس ، إذ يقول : إذا لم تكن ذئبًا على النّاس أَطلِسا شديدَ الأذَى بَالَتْ عليكَ الثَّعالبُ وليس قول زهير ببعيد عن هذا إذ يقول :(( ومن لا يَظْلِمِ النّاسَ يُظْلمِ )) . لنتخيَّل مجتمعًا شعاره العدوان ، ورايته البطش والانتقام ، وسياسته توقُّع الأذى ، والمبادرة إلى مواجهته بالأذى والعدوان دون الالتفات إلى الجانب الإنساني أو التعويل على العاطفة الإنسانيّة . من هذه الزاوية تبرز عظمة الإسلام في الجانب الاجتماعي في إرساء قواعد التّرفٌّع عن الأذى ، والإعراض عن الجاهلين ، والكفِّ عن مواجهتهم بالعدوان علوًّا وترفُّعًا وسموًّا. هذه المعاني تحملها آية واحدة تُعَبِّر عن إعجاز القرآن وبلاغته ، وعظمة الإسلام وسموِّه على جميع الأعراف والعادات والدّساتير الوضعيّة المحكَّمة . يقول الحق تبارك وتعالى :((وعباد الرّحمن الذين يمشون على الأرض هَوْنا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)) . مصباح ينير دروب الحياة ، ويملأ النّفس زهوًا وعلوًّا وانشراحًا ، ويحملها على المركب الأسمى لا الأدنى ، الذي يستجيب لرغبات النّفس العدوانيّة ونزعاتها الشيطانيّة . ومن الإعجاز القرآني والبلاغة التي تسمو على كل ألوان البيان والأساليب البديعة قوله جلّ وعلا:(( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين )). قال أبو عبد الله القرطبي في((الجامع لأحكام القرآن)) : (( في هذه الآية ثلاث كلمات تضمَّنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيّات، فقوله((خذ العفو)) يدخل فيه صلة القاطعين ، والعفو عن المذنبين، والرّفق بالمؤمنين . ودخل في قوله((وأمر بالعرف)) صلة الأرحام ، وتقوى الله في الحلال والحرام ، وغضُّ البصر ، والاستعداد لدار القرار . وفي قوله(( وأعرض عن الجاهلين )) الحضُّ على التّعلّق بالعلم ، والإعراض عن أهل الظّلم ، والتّنزه عن منازعة السّفهاء ، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة ، والأفعال الرشيدة)) الجامع : 7/218 . إن ملامح الإعجاز في الآية القرآنية تظهر في الإيجاز المحكم , وتعدد المعاني مع قلة المباني , وتوافر القيم الأخلاقية والقيم السامية الرفيعة في الألفاظ معدودة , إنها تأخذ بشغاف القلب , وتعانق الروح المؤمنة, وتحضّها على الارتفاع بالقيم , والسمو بالمكارم , والابتعاد عن السفاسف , والتّرفع عن الدّنايا, وإيراد القيم الأخلاقيّة في صورة لا يمكن معه أن تتوافر في أي فن , أو علم , أو ابداع , ولا عجب في ذلك , فذلك جانب من إعجاز القرآن الكريم الذي وصف بأن له حلاوة وعليه طلاوة وأن أعلاه مثمر وأسفله مغدق وأنه يعلو ولا يعلى عليه .