ألا يحتاج اليوم الروائي والقاص، إحسان عبدالقدوس، الذي غيَّر في مسارات الأدب العربي الكثير، إلى إعادة قراءة متفحِّصة لجهوده العظيمة! أليس الصمت الذي يُمارسه عليه عصرنا، رقابة من نوعٍ آخر؟ أليس إهمال النقد له هو استرضاء ضمني لمؤسسة ثقافية عربية متهالكة، لا تريد مَن يُزعجها في هدوئها ويقينها؟ يكاد يكون إحسان عبدالقدوس، أهم كاتب عربي تناول أعماق النفس البشرية، واختبر نوازعها الدفينة دون خوفٍ ولا تردُّد، في كل الطبقات بلا استثناء. وعلى الرغم من ذلك، تكاد الذاكرة الجمعية في زماننا، لا تحتفظ له إلا بالقليل من منجزه العظيم. وكأن التجارب الأدبية العربية بلا ذاكرة. تمارس بترًا آليًّا مقصودًا، أو غير مقصود، فيمنع كليًّا من تواصل الأجيال فيما بينها. لو سألنا اليوم قطاعات واسعة من الشباب ماذا قرؤوا لإحسان عبدالقدوس؟ سنُصاب بخيبةٍ كبيرة، ولن نجد حتى في النقاد مَن يشفي الغليل بأن يضعنا أمام تجربة إنسانية حداثية وليبرالية؛ ملأت زمانها بنصوصٍ كانت تقرأ في وقتها بنهمٍ كبير؛ إذ كان الشاب -الموقف وقتها- يجوع قليلًا مقابلَ أن يشتري زاوية من رواياته؛ لأنها كانت تمس شيئًا في أعماقه وبصدقٍ كبير. تُوقظه من سباته، وتضعه وجهًا لوجه مع أوجاعه ونزوات جسده المرتبكة. كانت العاطفة رهانًا كتابيًّا، وليست فقط نزوة أو مزاجًا. ولا أظن أن كتابات إحسان عبدالقدوس ضيعت اليوم من قوتها التأثيرية، ما زال الإنسان هو الإنسان بكل انشغالاته الاجتماعية والجنسية في زمنِ اصطدام القدامة بالحداثة، والتي لم تخترق إلا قشورها الخارجية؛ لأن كتلة القدامة ما زالت مهيمنةً إلى اليوم، بكل ثقلها. الكثير من النصوص الشبابية التي تظهر هنا وهناك، والتي تحمل عناوين مغرية، وحوَّلتها الوسائط الاجتماعية إلى بيست سيلر، تنسى أو لا تعرف أن ما قام به إحسان عبدالقدوس، قبل أكثر من نصف قرن، كان أكثر جُرأة، لدرجة أنه دفع ثمن الرقابة غاليًا على نصوصه، وعلى الأفلام المقتبسة منها. بل أكثر من ذلك كله، فقد سُجِنَ العديد من المرات، ولم يسمع لتهديدات المؤسسة السياسية والأخلاقية أو حتى العسكرية آنذاك. على الرغم من كونه خريج الأزهر الذي زجّه فيه جده من والده، فهو مُحب لحرية أمه الفنانة والصحفية، ذات الأصول الشامية، روز اليوسف (فاطمة اليوسف)، التي كانت سيّدة متحررة، وكان بيتها مكانًا للندوات الثقافية والسياسية التي نشّطها وقتها كُتّاب كِبار، وسياسيو تلك الفترة الذين كانوا يجتهدون في البحث عن مجتمع أكثر حيوية وجمالًا وانفتاحًا. ظل إحسان عبدالقدوس بين عالمين متناقضين. يقول عن ذلك: «كان الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين يُصيبني في البداية بما يُشبه الدوار الذهني، حتى اعتدت عليه بالتدريج، واستطعتُ أن أعدَّ نفسي لتقبله كأمر واقع في حياتي لا مفرَّ منه».. ربما لأن إحسان عبدالقدوس جعل من مسألة الحب مركزًا لاهتمامه، فقد خاض صراعات مريرة مع مجتمع كان في حالة انتقال صعبة، من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الليبرالي؛ لذلك لا نُبالغ إذا قلنا بأنه شكَّل مدرسة قائمة بذاتها، ويُمكنه أن يتحوَّل إلى أبٍ حقيقي لجيلٍ شاب جعل من الكتابة الحرة، المخترقة للتابو، رهانه الكتابي. هذا الجيل الذي اختار الحديث بحرية عن الجسد، لا يعرف أن له أبًا يُمكنه أن يعطيه شرعية الكتابة الحرة والجريئة. لا يعلم أغلب شباب اليوم، من الكُتَّاب والقُرَّاء، أن إحسان عبدالقدوس كتب عددًا مرعبًا من القصص والروايات التي تجاوزت الستمائة، استقبلت السينما المصرية منها نحو ستين، حوَّلتها إلى أفلامٍ ومسلسلات. فهو من أكثر الكُتَّاب حظًّا من هذه الناحية، ولا يُنافسه في ذلك أي كاتب في الزمن الماضي والحاضر. ولمَن لا يعرف إحسان عبدالقدوس، فهو خرِّيج جامعة الأزهر. عمل كرئيس كُتَّاب بالمحاكم الشرعية، ودرس في مدرسة خليل آغا وفؤاد الأول بالقاهرة، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة. تربَّى في جو والدته روز اليوسف، وتولى رئاسة تحرير مجلتها روز اليوسف. كان يكتب فيها مقالات سياسية تعرَّض بسببها للسجن، لكنه ظل وفيًّا لمثل الكتابة، الحرية والصدق والجرأة في قول الحقيقة على مدى الثمانين سنة التي عاشها بامتلاء (1919-1999). يحتاج اليوم إحسان عبدالقدوس إلى إعادة قراءة حقيقية تضعه من جديد في مدارات الإبداع والقراءة.