كان من ملامح برامج الإذاعة السعودية، ورديفها التلفزيون، الاهتمام بالنغم الأصيل، والإنشاد الممتع، فكثيرًا ما كان يُردّد للناس ضروبًا شتى مما يُذاع، مثل قصيدة «ربّاه»، و»أهيم بالروح على الرابية» اللتان كتبهما الشاعر الكبير طاهر زمخشري، وأنشدهما على التوالي، السيد سعيد أبوخشبة، وطارق عبدالحكيم، كما كان الموسيقار غازي علي حاضرًا بقوّة من خلال الفن الأصيل، ولا ننسى في حقبة الثمانينيات والتسعينيات الهجرية الاحتفاء والتفاعل مع ما أنشده، وخصوصًا في رائعته «في روابي قباء»، والأخرى «شربة من زمزم». وقد أتاحت لي الفرصة في ثلوثية الأستاذ المستشار محمّد سعيد طيب (أبوالشيماء) رؤية الإنسان والموسيقار الفنان غازي علي، ورفاقه، فوجدته كما هو؛ بسيطًا في مظهره، عميقًا في مخبره، ودودًا في حديثه، بل أزعم أنه عندما أخذه الحنين وقام بإنشاد رائعته «في وادي قباء»، فكأنها وُلدت من جديد في صوته الرنان، فتفاعل الحضور معها، وقام نفر في مقدمتهم معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة من أماكنهم لإلقاء التحية على الإنسان غازي علي، مما كان له طيب الأثر عنده، وعند جموع الحاضرين. وتساءلتُ: لماذا بعدت الشقة بيننا وبين هذا الإنشاد والطرب الأصيل؟! ولعل حقبة مضت كان يُنظر فيها إلى الغناء وما صاحبه، نظرة سلبية، والآن هناك منظور آخر، والمتمثل في الهيئة العامة للترفيه، التي أعادت إلى الأذهان تلك الحقبة الماضية، التي فرّطنا فيها، وسمحنا لأصوات نشاز بأن تتسيّد الساحة برؤاها وأيديولوجيتها المتطرفة، فنشأ جيل تقوده النظرة المتشددة، وتتحكّم في مصائرهم أصوات تدعو بثقافة الموت، بقيت الساحة قاحلة من نضرة الإبداع، وفقدت الحياة معناها المشرق.. ونحمد الله أن أمدّ في أعمارنا لنرى بوادر العودة إلى ذلك الزمن الجميل، لتعود إلى الفرد السعودي روحه المطمئنة في الاعتدال، والمنسجمة مع روح الوسطية، والملتزمة بتعاليم دينها تمام الالتزام، بغير تفريط، ولا إفراط. كانت تلك أمسية أقل ما توصف به أنها فتحت نافذة الحنين، والذكرى لأيام سالفات مضين بالخير، وانطوين على روح الطيبين، وخلدن في الأيام طيبة وإبداعًا واعتدالا.. وكم كان رائعًا أن يقوم «أبوالشيماء» في خاتمة الأمسية بتكريم هذا الإنسان المبدع، والموسيقار الذي لم يجد حظه من الصيت والشهرة بما يناسب عطاؤه وإبداعه، ولكن العزاء في تلك الثلة التي تفاعلت معه، ووجدت في صوته الصدّاح الجسر الذي أوصلها إلى ذكريات ماتعات، وأيام خالدات.