تطل علينا بعد كل فترة تعليقاتٌ أو صورٌ أو رسائلُ تشتكي من سيطرة (شاشة الهاتف) على عقول أبناء المجتمع حتى أصبحت ظاهرة اجتماعية محيّرة.. في كاريكاتير انتشر بعدة صور، يجلس عدد من الضيوف في مجلسٍ منزلي منكسي الرؤوس، ينظر كل منهم إلى جواله، وصاحب المنزل يردد متعجباً: «والله يا ربع .. جلستكم ما تنمل- أي لا تُمل»، بينما يرحب -في كاريكاتير آخر مشابه- صاحب البيت بضيوفه قائلاً: «أعز من جانا .. يا مرحبا».. فلا يرد عليه أحد من ضيوفه الغاطسين في نوافذ التواصل أو «التقاطع» الاجتماعي.. بينما يعلّق ضيف قابع في طرف المجلس: «أقول: عطنا الباسوورد حق الواي فاي.. ولا يكثر»..!! وعلى نفس المنوال تصلنا أحياناً رسائل الواتس، أو تغريدات تويتر، أو حتى مقاطع سناب شات التي تورد قصصاً مماثلة تؤدي إلى الغرض ذاته: وهو أن هذه التقنيات تسهم في تكريس الانقطاع، والعزلة، والانطواء، وذبول الحياة الاجتماعية والاندماج الأسري والاجتماعي. بعض هذه الرسائل تأتي على شكل بكائيات طويلة على الماضي «الجميل» وقيمه، وعاداته الاجتماعية، وكيف كان الناس يهتمون ببعضهم، ويزورون بعضهم، ويستمعون لبعضهم... الخ، في مقابل هذا الانفصال الذي نعيشه هذه الأيام. من يُروّج هذه الرسائل في العادة أناس عاشوا الردح الأكبر من عمرهم في زمن ما قبل الإعلام الجديد وهذا قد يكون مفهوماً.. أقول قد يكون مفهوماً، وإن لم يكن في رأيي مقنعاً، فهؤلاء عاصروا تحول المجتمعات ودخول التقنية كعامل رئيسي في حياة البشر، وحري بهم أن يكونوا أكثر وعياً وتفهماً للحركية الثقافية لأنهم عاصروا التغيير من بدايته، وخبروا عوامل التغيير الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. لكنّ ما لا أفهمه أن يتداول هذه الرسائل شباب لم يعرفوا الحياة فعلاً، قبل أن يكون هناك «انترنت» مفتوح، وفضاء واسع القنوات، وهواتف ذكية.. وأخرى أكثر ذكاءً..!! فكيف يتحسر أحد على ماضٍ لم يعشه، وكيف يفهم هذا الماضي وهو لم يدرك تفاصيله اليومية وظروفه وطبيعة الحياة فيه!! المفارقة أن هذه البكائيات والرسائل المستنكرة تعتمد في ترويجها على الشاشة، وعلى الواتس آب.. وعلى منابر الإعلام الجديد.. تلك التي يدعونها (مواقع التقاطع الاجتماعي)!! نعم.. أنا أؤمن أنها ظاهرة تستحق التأمل، وأن كثيراً من التغيرات تطرأ على عادات المجتمع وسلوكيات أبنائه، وتثير أسئلة كثيرة، ويجدر أن تتناولها الدراسات الجادة بالتحليل والنظر، ولا أستغرب أن تتحول هذه الظاهرة إلى قضية نقاش وجدل اجتماعي.. شريطة أن توضع الظاهرة في إطارها الطبيعي، وأن نقرأها وفقاً للظروف الزمنية التي تظهر فيها.. وأن ندرك أن هذه طبيعة العصر ولغته التي يتحدثها، فلا مجال أن نستثني التقنية من هذا الزمن، كما أنه لا مجال للعودة إلى ما قبل ثورة الاتصال.. إلى أيام الطيبين. أنا أرى أن الحكم على الظاهرة وفقاً لظروف الماضي وطبيعته خللٌ منهجي في التفكير... فالماضي كوّن قيمه وتقاليده وعاداته وفقاً لظرفه الزمني وللإمكانات المتاحة له مادياً ومعنوياً، وكذلك يفعل الحاضر الذي لا -ولن- يكترث لبكائيات الواقفين على أطلال الطيبين، وعادات الطيبين... وزمن الطيبين الذين لم يجلسوا في مركاز العم «قوقل».. ولم يكن لهم مع «نتفلكس» فنجال.. ولا حتى علوم رجال..!!