منذ أن جاء الوحي بفرض صيام رمضان على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة النبوية.. ارتفع الصوت بالنداء للسحور، حيث كان الصحابيان الجليلان بلال بن رباح وابن أم مكتوم يتناوبان في مهمة إيقاظ النّاس للسّحور عبر رفع الأذان.. وحين اتسعت دائرة الإسلام الجغرافية في كثير من الأمصار، تغيرت وسائل «المسحراتي»، وتفاوتت حسب الحاجة والموروث الاجتماعي في كل بيئة.. فكان عنبسة ابن اسحاق أول من نادى بالتسحير في عام 228ه، حين كان يطوف ماشيًا من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص.. أما المسحراتي في مصر فقد استعان بالطبل لإيقاظ الناس، ولو كنت في اليمن والمغرب قديمًا فلابد أن تسمع طرق المسحراتي على بابك ب»النبوت».. ويختلف الحال في الشام فأهلها كانوا «يطوفون على البيوت ويعزفون على العيدان والطّنابير وينشدون أناشيد خاصّة برمضان».. كل مكان له طقسه الخاص، ووسيلته المختلفة، والغاية واحدة، تنبيه النائمين للسحور تنفيذًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.. مهنة يتفاوت فيها مؤدوها بين الاحتساب لوجه الله والحصول على مقابل مالي رمزي.. ما زالت حاضرة تقاوم أدوات التنبيه الحديثة.. كما هو الحال في الأحساء، حيث بقيت مهنة المسحراتي صامدة وحاضرة بقوة تقاوم الاندثار، فما زال أهالي القُرى الشرقية والشمالية من الأحساء مرتبطين ومتمسكين بهذه المهنة كثيرًا، يحسبون لها حسابًا كبيرًا قبل دخول رمضان. ظروف صعبة يقول أحد المسحرِّين القُدامى في الأحساء علي أبوشملة: كنا قديمًا نحمل الطبل أو المزمار لإيقاظ الناس لوجبة السُّحور، وعادة ما يكون النداء مصحوبا ببعض التهليلات أو الأناشيد الدينية. ومع تقدم الزمن وتطور المجتمع تكنولوجيا أصبحت هذه المهنة شبه منقرضة؛ إلَّا أنَّ أهل الأحساء لازالوا مُحافظين عليها ومُرتبطين بها ارتباطًا وثيقًا. ويعود أبوشملة إلى (60) عامًا خلت مستعيدًا الصعوبات التي واجهته آنذاك قائلاً: لم تكن هناك شوارع مسفلتة أو إضاءات وكان الوضع مخيفًا خاصةً في ليالي الشتاء الباردة والمطيرة، وكان المسحراتي يجوب الشوارع لوحده ولا يجد معه أحدًا يؤنسه في الطرقات والحواري ويبقى أكثر من ساعتين ونصف وهو يدق الطبل، وكان المسحراتي يخرج من بيته مفقودًا ويعود إليه مولودًا، كل ذلك ابتغاء للأجر والثواب والمغفرة. ويختم أبوشملة قائلاً: لم يكُن تسحيرنا من أجل المادة، فليس كل شخص يستطيع إعطاء المسحر مبلغًا ماليًا؛ إلّا قليل جدًا، فكان الأغلب يعطي المسحر بعض أنواع الأكلات كنوع من المساعدة والتكريم والتقدير له مثل حب الهريس والأرز الحساوي والطحين والجريش والساقو والنشاء وغيرها. مسحراتي عصري التجربة لا تختلف كثيرًا عند أحد المسحرين المعاصرين الشاب الحاج علي بن شايب، الذي يقول: قبل الإمساك بساعتين ونصف تقريبا أبدأ بجولتي في الأحياء والحواري والسِّكك الشّعبية موقظًا أهاليها وذلك بالقيام على ضرب الطبلة أو التنكة مرددًا بصوت جوهري: رمضان يا رمضان... يا شهر الله والغفران اقعد يا صايم... اقعد وحِد الدايم يا نايم وحّد الدّايم يا غافي وحّد الله يا نايم وحّد مولاك للي خلقك ما ينساك قوموا إلى سحوركم جاء رمضان يزوركم وأقوم بتلحين هذه العبارات بواسطة ضربات فنّية أُوجّهها إلى طبلتي. ومع ترديدي للأهازيج والأناشيد الفلكلورية يقوم الأطفال الذين دائما يكونوا مُلاحقين ومُرافقين لي وهم في فرحةٍ وغبطة بِتكرار الأهزوجة والأنشودة، والحمد لله لا أجد صعوبة أو مشاكل كما كان في السابق فالأمور الآن سهلة ومُيسرة والأطفال يسيرون معي ويؤنسوني ويرددون معي الأناشيد والأهازيج وأرتاح معه ويرتاحون معي. وعن الأجرة التي يتقاضاها جرَّاء عمله هذا قال الشايب: أجري على الله سبحانه وتعالى، وفي نهاية الشهر يقوم أهل البيوت بإعطائي ما تجودُ به أنفُسُهم من نقود وهدايا وحلويات ويُبادلوني التهاني والتبريكات بِمناسبة قدوم العيد السعيد. أبوطبيلة أما المسحراتي موسى بن جعفر المسحراتي فقد أطلق عليه الأطفال لقب «أبوطبيلة» وهم يُلاحقونه من حارةٍ إلى حارة ومن فريج إلى آخر وهم فرحون مُستبشرون ويُردِدون العبارات الروحانية الطيبة التي تبعث على التمسك بالقيم والعادات الأصيلة- وترى الأطفال الصغار ينتظرون على أحر من الجمر قدوم المسحراتي كي يُرافقونه في جولته الليلية. وبيَّنت الحاجة أم عماد عبدالله أنَّ المسحراتي «أبوطبيلة» بِمثابة الميقاتي لأهل الحي، وله بصمة في الشهر الكريم.