(6) من المفاتيح والسمات الواضحة في شعر (ابر) طالع الرثائيات والبكائيات، حيث يجد القارئ/ الناقد في جُلِّ دواوينه المجموعة هنا في (أغاريد التهامي) نزوع الشاعر إلى تدوين وتوثيق علاقاته الفاترة ب(الموت) ودلالاته حيث يصطفي أخلاءه وأعزاءه والأصدقاء والأهل والأقربين من الناس والجمادات فيتفاعل مع هذا الواقع المرير، بكاءً وحزنًا ورعبًا من هذا القدر القادم. فهاهو يعزف (على أوتار الموت) نصًا رثائيًا/ باكيًا فيه نفسه الملتبسة بالموت صبحًا وعشيًا، يقول فيه: قد ألفت الموت إلا موت أيامي الشقية ....... كسر الموت قناتي في شبابي وصبيا بعدما أسقيت قبرًا وارتوى من مقلتيا والدنا أرض شقية رب إن الموت حق (المجموعة ص ص 85-87) وها هو (يرثي فكرة) مرت سريعًا ولم تستثمر، وهو نص قصير مشحون بالأسى على هذه الفكرة التي (فاتت) و(فارقت) و(أدلجت) وأضحت «في ضريحي معطرة»، يقول فيها: «يا مُنَى خاطري ويا راح نفسٍ مسيرة إنني مُرَّة إذا لم تطب لي المسايرة فاتركوني فإنني أيها القوم نافره رب فاتت مفاتني - في ضريحي معطرة» (المجموعة ص 89) ومن أجمل الرثائيات عنده رثاؤه المكتبة التي احترقت وهي لرفيق دربه الشاعر أحمد عبدالله عسيري، يقول فيها: «إبك إن البكاء منك فريد وتمتع بدمعة قد تجود إبك عمرًا جمعته بتفانٍ ضاع في عمر لحظة لا تعود مات في البيت عالم شكلته ريشة الفقر والزمان التليد مات في عقرك الزمان فغرد مثل ما ضاع في حمانا الشهيد إن للموت بالفناء حياة لا يراها الرقيب المستفيد إبك واحذر أن يراك رقيب عربيُّ مقصه لا يبيد» (المجموعة ص 253-254) وأخيرًا فإن أجمل البواكي والمراثي تلك القصيدة الطلعة في وفاة أمه (فاطمة) رحمها الله ورحم كل الفاطمات والتي أفرد لها ديوانًا بعنوان (وافاطمة)، والتي سبق الإشارة إليها في بداية الورقة. انظر: (المجموعة، ص 297-303). وهناك الكثير من الوقفات الرثائية، والبواكي المحزنة في هذه المجموعة، مما يمثل أيقونة وسمة لافتة في شعر (ابر) طالع. (7) ومن المعالم البارزة والسمات اللافتة في شعرية إبراهيم طالع الإخلاص الواضح.. والانتماء القطعي للقصيدة العمودية/ البيئية الخليلية وفضاءاتها الشكلية (وزنًا وقافية) وإن خالطها شيء من التجديد الجميل الذي (يحدثن) النَّص والقصيدة على المستويين اللغوي والموضوعاتي. وتتجلى هذه السمة من خلال عملية حسابية/ إحصائية ففي ديوانه الأول (أغاريد التهامي) (43) قصيدة منها (39) نصًا على النسق العمودي/ الخليلي و(4) فقط تفعيلة. وفي ديوانه الأخير (وافاطمة) (24) قصيدة عمودية/ خليلية مقابل (12) على النسق التفعيلي. وقس على ذلك باقي دواوينه الواردة في المجموعة. وهذا يدل - بكل تأكيد- على تراثيته وتعلقه بالفضاءات الشعرية التي تأسست عليها ذائقته الأدبية، وتتلمذ عليها بروحه الشاعرية. أما قصائده (الحداثوية) فهو يجيئها على استحياء عبر نصوص التفعيلة، والقصيدة الحرة المنثورة ولكنها في ثياب لغوية معاصرة ونلمح صورًا منها في ديوانه (سهيل اميماني) و(نحلة سهيل)، وبعض النصوص هنا وهناك. لكن الأمر المؤكد هنا أن شاعرنا (ابر) طالع ينتمي لجيل القصيدة التراثية المعاصرة سمتًا وأسلوبًا ولغة وشاعرية. وفي هذا الإطار الشكلي تأتي القصائد المناسباتية التي يتقن الشاعر التواصل مع جمالياتها وتحويلها من مدائحية فجَّة إلى جماليات لغوية وموقفية يستعيد فيها ذاته، ومنطقته وروحه الإنسانية ومشاعره الفياضة. فمثلًا نجد قصيدته (برك وأمير) التي يوثق فيها لوصول الأمير سلطان بن عبدالعزيز (رحمه الله) إلى عسير، يقول فيها: «حل قلبًا ومقلة وضميرًا لا ربوعًا أو خيمة وسطورا يوم أصحى وحين أضحى مطيرًا واستطابت ربى عسير العبيرا لم تزرنا فأنت فينا مقيم في قلوب تعهدتك شعورا» (المجموعة ص 254-250) كما نجد هذه اللغة والأسلوب تغلف قصيدته المناسباتية التي يحتفل فيها بالمتفوقين من أبناء منطقته، يقول فيها: ولدي إن تميزَتْ منك عنِّي ممكنات فإن فيها إباكا وتمهل فإن لي فيك روحًا عربيًا بعرفِهِ أذكاكا (المجموعة ص 235-237) وفي المجموعة كثير من القصائد (المناسباتية) التي نجد فيها روح الشعر والأسلوب الشاعري والتجليات اللغوية مما يجعلها أيقونة لافتة وسمة دالة في شعر إبراهيم طالع. (8) ومن السمات اللافتة، والدلالات البارزة في التجربة الشعرية ل(إبراهيم طالع) اعتزازه بالذات، وتقديم نفسه كتجربة متكاملة ومتفردة، وكشخصية ذات تاريخ مورق وتراث عميق وإنسانية متجاوزة. ومع هذا الاعتزاز الذاتي لا يجد غضاضة في تصوير نفسه وآلامها وإحباطاتها وانكساراتها، في نفس الوقت الذي يفتخر فيه بإنجازاتها وفعالياتها وبذلك فهو يقدم (الإنسان) أينما وكيفما كان، وفي هذا السياق يأتي الاحتفاء بالوطن والوطنية كجزء من الاعتزاز بالذات والتماهي في الوطن الأكبر حيث هو الحب الحقيقي والمواطنة الصالحة. «أتيت كأني أحيط بما في النساء وما في القلوب وما تشتهيه الحروف ويهفو إليه المطر كأن شراعي يتيه يتيمًا ويجهل معنى السفر» (المجموعة ص 15) ويقول في المواطنة: «لي موطن يا سيدي لا تستطيع بأن تحل محله الأوهام طابت عسير بحبها وجمالها فهل الجمال قضيَّة وحرام وغزلت في صحراء نجد قصائدًا للحبِّ يا شيخي فما الآثام» (المجموعة ص 39-40) (9) وآخر السمات والعلامات البارزة في شعرية (ابر) طالع تعلقه ب(الجزائر) بلد (المليون شهيد) والتي أوفد إليها معلمًا في بدايات تكوينه العملي/ الوظيفي. فلا يخل ديوان مما تضمه المجموعة من قصيدة عن هذا القطر العربي الذي جاهد وحارب الاستعمار حتى نال الاستقلال وقدم في هذا مليون شهيد، وسار على طريق الحضارة والتقدم والديمقراطية. يقول في أحد نصوصه التي خصصها للجزائر: «أقسم الشعب يومها بجبال راسياتٍ وبالدماء تلانا سوف تحيا جزائر النيِّف عزمًا فابن باديس محتب في ذرانا يا ديار الشهيد جئت سؤالًا عربيًا جوابه ما شفانا» (المجموعة ص 347-351) (10) وختامًا: فإن إبراهيم (ابر) طالع عسيري، ابن قرية (رجال) شاعر متمكن.. لغته سهلة ميسورة، ومعانيه جزلة وأثيرة، وموسيقاه آسرة ومثيرة.. ثقافته عالية وطروحاته المعرفية غاية في التأصيل والتراثية.. أصدر دواوينه الشعرية الأربعة الأولى في الفترة من 1403-1436ه ثم ختمها بديوانه الأخير: أغاريد التهامي الذي جمع فيه كل مجموعاته الشعرية السابقة إلا ديوان هجير الصادر عام 1403ه. دون أي تبرير للقراء!!