لم يعد يؤثر فيَّ (البندول).. ولم ألبث مستغرباً كثيراً. فقد كنتُ أعلم أن السبب هو تكراري له، حتى تعوّد عليه جسمي فلَم يصبح فعّالاً . وعندما تفكّرت قليلاً؛ وجدتُ أن هذه النتيجة البديهية لا تنطبق فقط على دوائي - أيًّا كان، ولكنها تنطبق على معظم الأمور في مختلف نواحي الحياة. فكذلك (مثلاً) كلمات الحب، اذا أكثرت منها سيقل مفعولها، وربما ينعدم مع الوقت، ولن يكون لها طعم ولا تأثير لدى الطرف الآخر . إذاً المسألة مسألة توازن. التوازن سر السعادة. يُقابله هنا المبالغة. وعندما يتأمل الإنسان؛ يجد أن المبالغة سبب معظم مشاكله. المبالغة في المشاعر.. في الثقة.. في الاهتمام.. وحتى في التفاؤل.. إلى آخر القائمة الطويلة من الصفات الجميلة؛ التي تنقلب عيوباً عند المبالغة فيها . من أجمل القواعد الحياتية ما قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أحب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما.. وابغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما. تدعونا القاعدة بأن نطلق مشاعرنا (هوناً ما)، بلا إفراط ولا تفريط، ولا مبالغات في القُرب والبُعد. وعندما تأملت؛ وجدت أن القاعدة لم تضع أساساً رائعاً لضبط المبالغة في الشعور وحسب، وإنما أرست قانوناً للتوازن يصلح القياس عليه في مختلف مناحي الحياة . فإذا بالغنا في الثقة، ولَم نوثّق حقوقنا، بذريعة حسن الظن؛ عندها قد تضيع أموالنا ونصبح في «خبر كانَ» منصوباً علينا بسبب إهمالنا، وسنقول بعد أن تعلَّمنا الدرس ناصحين: تمسّك بثقتك هونًا ما، عسى أن يخيب ظنّك يومًا ما ! وإذا بالغنا في الدقة، وردّات فعلنا تجاه الأخطاء، وانتهجنا المثالية، واستحال علينا التغافل، أصبحنا مهووسين، مهمومين، بل ودراميين. ولذلك ينفر الرجال من الفتيات اللواتي يُبالغن في ردات فعلهن.. ويُسمّونهن Drama queen أو الفتاة الدرامية، وهن كثيرات.. وقد قيل إن الحياة: (تنتظم بالتغاضي، وتنسجم بالتراضي، وتنهدم بالتدقيق، وتنتهي بالتحقيق)! لذلك، تمسّك بمثاليّتك هوناً ما، عسى أن تكسرك الواقعيّة يوماً ما ! ولا يخفى عليكم أن الإسراف نوعٌ من المبالغة في الاستهلاك، فالذين أسرفوا في هدر مشاعرهم للشخص غير المناسب، لم يجدوا عطاء قلوبهم كما هو حين وصلوا للشخص المناسب، والذين أسرفوا في مياه كيب تاون أصبحت صنابيرهم تحتضر اليوم.. غير أن الأهم هو التوازن وعدم الإسراف في التغذية: أن يأكل الانسان هوناً ما؛ كي لا يصبح بديناً يوماً ما . وهكذا نرى أن المبالغة في التصرفات النبيلة تقلبها إلى مستنكرات. لذلك طبّق قاعدة (هوناً ما) على كل أفعالك، وتخلَّص من مُبالغاتك، حتى في الأفكار التي تعتقد أنها عظيمة: تمسَّك بأفكارك هوناً ما، عسى أن تنقضها بنفسك يوماً ما!