لن أقول إن جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية «كاوست» التي قضيت فيها ليلتين مدهشتين قطعة من أوروبا أو أمريكا أو كندا أو أستراليا.. إنها قطعة من مركز ثول شمال جدة تمتد على مساحة 36 مليون متر مربع، وتحتضن أكثر من 1500 عقلٍ نيِّرٍ ما بين طالب للماجستير والدكتوراة ومانح لهما من علماء وأكاديميي العالم. وإذا كان استخدام أفعل التفضيل في اللغة الصحفية من أخطر الأشياء -بل الأخطاء-، فإنني أقول بلا تردد وعلى مسؤوليتي المهنية إن «كاوست» هي أفضل بيئة ومدينة جامعية شاهدتها طوال مشواري الصحفي الذي يمتد إلى ثلاثة عقود زرت خلالها أكبر الجامعات في أمريكا وأوروبا وفرنسا والنمسا وغيرها. وأستطيع أن أقول بالورقة والمعلومة والقلم: إنها أكبر المدن الجامعية على مستوى العالم، الحرية فيها حرية الإبداع والابتكار، والتجول بين شوارعها وأبنيتها هو تأمل للفكر العربي حين يرتقي، وللقرار حين يتوهج ويأتي في الوقت المناسب. أنت في شوارع «كاوست» تمضي مستمتعًا ببيئة نظيفة لا تلوث فيها، ونظام مروري صارم، يجعل من قيادة المرأة للسيارات مشهدًا انسيابيًّا عاديًّا، ومن دخول الأفراد والأسر لدور السينما سلوكًا اعتياديًّا، ومن السكنى في الفيلات فرصة لمزيد من الخيال المحفز للإبداع. والحق أنني تألمت كثيرًا لتأخري في زيارة «كاوست» التي افتتحت رسميًّا عام 2009 وتمنح الماجستير والدكتوراة فقط من ثلاثة قطاعات أكاديمية هي العلوم الحيوية والهندسة الحيوية، والرياضيات وعلوم وهندسة الحاسوب، والعلوم والهندسة الفيزيائية والكيميائية! قضيت ثلاثة أيام في «كاوست» لمست خلالها مدى التزام الجميع بما ورد في إستراتيجية الجامعة من زاوية القيم، حيث الالتزام بقيمة الإنجاز والحماس والإلهام، فضلا عن الحوار والتنوع والنزاهة والانفتاح. بيئة سليمة ومحفزة بالفعل شكلا وموضوعًا على شاطئ البحر الأحمر، حيث يرتاد طلاب الماجستير والدكتوراة معامل البحث وقاعات المحاضرات ويعودون للسكنى في فيلاتهم الأنيقة التي تتوزع بين العزاب والأسر من الطلاب والأكاديميين. تضم الجامعة نحو 60 جنسية من الطلاب والعلماء والباحثين الذين جاءوا إلى «ثول» حيث تهب رياح الحضارات والثقافات المختلفة، وفي المساء تشب روح الفكر المتقد، والحوار الفعال، والجدل المنتج.. حين نتحدث مع الأستاذة الدكتورة نجاح العشري نائبة رئيس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية «كاوست» للشؤون السعودية عن أبحاث الجامعة يتحول الحديث إلى معلومات وأوراق عمل.. وحين تنتقل للحديث عن الطلاب تفوح رائحة الإصرار وعطر الأمل، فإذا ما سألتها عن برنامج الابتعاث رددت مع كل اسم بسرعة وبلا تردد «الله يحرسه» ومع كل مجموعة «الله يحفظهم» وكأنها تدرأ عنهم الحسد! نسألها عن «كاوست» فتتحدث عن الإنسان، وتسألها عن الأبحاث فتنقلك للبيئة والمكان. الرؤية لديها واضحة تمامًا أكثر من أي وقت مضى والتحول الوطني الذي تنشده هو تحول العقول، واقتصاد المعرفة هو عندها تحول الوطن من مستهلك للحلول إلى صانع للحلول.. إن الاستثمار في الإنسان هو اسثمار في بناء الوطن.. هكذا تتغير الشعوب والأمم. سيرة ومسيرة علمية ثرية تعد الدكتورة نجاح من الأعضاء المؤسسين للجامعة حيث بدأت عملها في عام 2008 كأول وكيل جامعة مساعد لشؤون الدارسين وقد أشرفت في ذلك المنصب -بالتعاون مع الفريق القيادي بالجامعة- على وضع الرؤية والخطط الاستراتيجية لشؤون الدارسين شاملة إدارة القبول، وإدارة التسجيل، والخدمات الحياتية للطلاب، وبرامج تطوير الطلاب ودعمهم، وبرامج المنح الدراسية، بما في ذلك برامج جامعة الملك عبدالله للموهبين وبرامج المسؤولية الاجتماعية للجامعة. وقد حصلت الدكتورة نجاح عشري على شهادة البكالوريوس في علوم الحاسب الآلي، وماجستير إدارة أعمال، ودبلوم عالي في طرق البحث الكمية والنوعية وعلى درجة الدكتوراه في نظم المعلومات الإدارية، مع التركيز على التخطيط وتطوير الأنظمة الاستراتيجية. هكذا بدأت حياتها المهنية الأكاديمية محاضرا في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وفي عام 2003، عينت أستاذ مساعد في نظم المعلومات الإدارية. كما شغلت العديد من الأدوار الرئيسية في جامعة الملك عبد العزيز، بما في ذلك رئاسة قسم المحاسبة، وعمادة القبول والتسجيل، ومركز تقنية المعلومات في شطر الطالبات، كما شغلت أعلى منصب نسائي بالجامعة وهو عميدة شطر الطالبات. أعطني مجلس أمناء قويًّا أعطِك صرحًا قويًا! ترى الدكتورة نجاح العشري أن مجلس أمناء جامعة الملك عبدالله هو الأجود والأقوى على مستوى الجامعات والمؤسسات السعودية بل على مستوى العالم، وهذا هو سر قوة وصلابة ومستوى الجامعة. إنه المجلس الذي يضم في عضويته رؤساء ماكينزي وأي ام تي وستانفرد وداو وبرنستن وامبريل كولج و بريل كوريل والدكتورة لبنى العليان والمهندس خالد الفالح والمهندس الفضلي والدكتور العريان الرئيس التنفيذي في مؤسسة بيمكو الاستثمارية العالمية، وغيرهم، ومن ثم فهو من أقوى بل أقوى مجلس أمناء في العالم.. يتغير الأعضاء ويظل المجلس قويا وفاعلا. لقد واجه المجلس وما يزال التحدي الكبير في بناء العقول بدءًا من الطالب وحتى الأستاذ أو الباحث، وكانت المهمة ومازالت هي كيفية استبقاء هذه العقول. لقد فطن مؤسس الجامعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله- مبكرًا إلى أهمية البيئة المناسبة لإثراء العقل البشري ومن ثم فقد كان القرار باستقطاب أسر الطلاب الموهوبين والعلماء الأفذاذ. 500 موهوب سعودي يدرسون في 48 جامعة عالمية بفخر شديد تتحدث الدكتورة نجاح عن برنامج رعاية الطلبة الموهوبين بجامعة الملك عبدالله وتعتبره أفضل برنامج ابتعاث في العالم. وقد بدأ البرنامج عام 2008 حيث يضم الآن نحو 500 طالب يواصلون دراستهم في أعرق الجامعات العالمية و48 جامعة .. وتستغرق الدراسة 6 سنوات الأولى لإتقان اللغة الإنجليزية ثم سنة تحضيرية قبل دراسة العلوم والهندسة. وتمضي تقول: عدت أخيرًا من حفل تخريج الطلاب الموهوبين وقد أقمناه هذا العام في منطقة تاريخية بايرزونا كان يسكنها الهنود الحمر على سبيل التنوع وإثراء الفكر والعقل والخيال العلمي، وكان المتحدث الرئيس هو رئيس جامعة ايرزونا، وهنا لابد من الإشارة إلى أن لدينا الآن عقولًا سعودية لديها التوهج والسطوع والتفتح.. نرعاها من خلال البرنامج بكل اهتمام وانتماء وحب للوطن ونمهد لها الطريق لسرعة الاستجابة والتلقي والاستيعاب. وتمضي تقول: إننا نستهدف تقوية وتنمية الجودة لديهم وصولًا لنوعية متميزة وقادرة على حمل رسالة الوطن في العلم والمعرفة. لقد بلغ من جودة البرنامج الذي أعده أقرب الأشياء أو المهام إلى قلبي حد الاستعانة بطلابه في كل مناسبة عالمية.. إنهم ينتشرون الآن كخلايا النحل التي تجمع أطراف العلم الحديث والتكنولوجيا المتقدمة في بوسطن وكاليفورنيا.. ويكفي أن أقول لك بثقة تامة وارتياح كامل إنك لو جلست مع أي واحد منهم ستجده مختلفًا جذريًا .. عمقًا ومعرفة ونظرة شمولية «الله يحفظهم ويرعاهم» حتى يكونوا الجيل القادم من المهندسين والعلماء وصناع القرار وحملة راية التقدم والرقي في المملكة. الخريج «الصبي» عاد للجامعة مسؤولًا لشركتين تطلبان موظفين. ثم تنتقل الدكتورة نجاح للحديث عن الابن الخريج، محمد الصّبي «يحرسه الله» الذي درس الرياضيات وابتعث ضمن البرنامج وعاد حاملًا الدكتوراة ومؤسسًا لشركتين مهمتين.. وعندما زار الجامعة في يوم التوظيف اكتشف الجميع أنه عاد بصفته مسؤولا عن شركتين ناشئتين تشقان طريقهما بنجاح، وجاء للبحث عن خريجين نابغين لتعيينهم. أبحث أكاديميًّا أولا قبل تنفيذ المشروع بصعوبة انتقلت الدكتورة نجاح من الحديث عن برنامج الابتعاث للحديث عن «كاوست» بصفة عامة لكنها لم تتخلَ طوال الحديث عن القاسم المشترك في حديثها عن الأشخاص المتميزين « الله يحرسهم».. إن مهمة الجامعة الوطنية الحقيقية كما تقول الدكتورة نجاح: هي دعم ومساندة جميع القطاعات فيما يخص تحقيق أهداف المملكة، أما الأولوية الإستراتيجية فهي تنمية العقول من خلال برنامج عالمية جيدة تقفز بالوطن إلى الصدارة. ربما كانت هذه المهمة تحديدًا هي إحدى مهام الدكتورة نجاح العشري التي ردت حين وصفتها بالعمود الفقري قائلة: العمود الفقري هو البحث العلمي.. ذلك أن الجانب البحثي العميق يقود كل شيء إلى النجاح ولكي يتحقق ذلك لابد من إنشاء برنامج أكاديمي لكل قطاع وعلى سبيل المثال فإنك حين تطرح مشكلة أو قضية تحلية المياه لابد من إنشاء البحث الأكاديمي أولًا ثم تنفيذ المشروع الذي تريد. لكل طالب في « كاوست» عالم بزهوٍ تتحدث الدكتور نجاح عن الكثافة الأكاديمية في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية فلكل طالب بالجامعة دكتور أو زميل «ما بعد الدكتوراة» وهذه تعد أعلى كثافة أكاديمية في العالم.. ومن ثم تظل مهمة الجامعة هي النمو المتكامل للإنسان والتركيز الدائم على التطوير الذاتي والتجويد والتطوير وكلها عناصر أو لوازم أو ضروريات للتحول الوطني الفاعل. الأجانب لتوسيع القاعدة التعليمية سألتها أخيرًا عما يقال عن زيادة عدد الأجانب في الجامعة فأجابت: لابد أن نتفق أولًا على أن الأجانب إنما جاءوا أو جئنا بهم لإثراء البنية التعليمية للطالب السعودي.. ومن ثم فإن زيادة الأجانب إنما هو للإثراء المعرفي والتنوع العلمي العالمي، وهذا هو الفرق بين زيادة الأجانب في التوظيف بأي قطاع وزيادة الأجانب لتأسيس أو استكمال القاعدة التعلمية البحثية الكبرى في المملكة خدمة لأبناء الوطن وللعالم كله. ابن «تندحة» الذي يحول أي غرفة إلى مجتمع أكاديمي عالمي وكأنه ابنها تتحدث الدكتورة نجاح العشري بفرح غامر عن طالب البعثة ابن «تندحة» في جنوب المملكة «عبدالله القانع» وهو من الدفعة الأولى للبرنامج فتقول: يكفي أن أشير لك إلى أن العالم الشهير جون كلفن وصف «القانع» بقوله: هذا الطالب السعودي عندما يدخل إلى غرفة يحولها مباشرة إلى مجتمع أكاديمي وبيئة للعلم والمعرفة! عندما يدخل محمد، يضيف جون كلفن: يصبح الجو عالميًا وتصبح المعرفة إنسيابية وتسطع أنوار العلم!