أعترف أنني في اليوم التالي لمهمتي في معرض جدة الدولي للكتاب، لم أتمكن من مقاومة جمال البحر في أبحر. وفور أن جلست جاءني صوت أستاذي فاروق شوشة الذي نصحني في بداية مشواري الإعلامي بالتحول من التلفزيون إلى الصحافة، وهو يردد في أسماعي: أنا البحر في أحشائه الدر كامن.. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي! هل كانت هي الصدفة، أم كان هو معرض جدة الذي يجمعني بأستاذي فاروق شوشة، وأستاذه حافظ إبراهيم.. والقاسم المشترك بين أربعتنا لغة الضاد ولغات العالم؟! أرى لرجال الغرب عزة ومنعة.. وكم عز أقوام بعز لغات أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا.. فياليتكم تأتون بالكلمات الى معشر الكتاب والجمع حافل بسطت رجائي بعد بسط شكاتي بسرعة حملت شكوى حافظ إبراهيم داخلا بها المعرض مخافة أن تنخفض الأضواء.. وقد خاب ظني! كيف ينطفئ النور هنا وهو يسطع بروائع الفكر العالمي قبل أن تنعكس على وجوه الحاضرين كبارا وصغارا؟! إنه يسطع في عقلك وعقل أولادك وبناتك إذا اصطحبتهم معك، وهذه نصيحتي! كل كتاب تقتنيه يشع نورًا لابنك طيلة حياته طوال رحلة العودة من معرض جدة الدولي للكتاب الى البيت، خاصة إذا اشتريتم أو اطلعتم ، سيشع أكثر في أركان البيت وسيستمر معكم طوال الأسبوع ثم طوال العمر! هذا هو الفرق بينك وبين غيرك ممن لم يزوروا المعرض، ولم يطلعوا ولم يشتروا.. اشتروا فهو الأنفس من كل السلع الترفيهية بل وغير الترفيهية أحيانًا.. اشتروا واقتنوا الكتب.. وقل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت؟ رومانسي عاطفي أنت أم سياسي؟ رجل أعمال أم اقتصادي؟ أم رياضي؟ فكل الأحوال أنت تختلف!ّ سيقولون لك: ولماذا ترهق نفسك؟ الانترنت على جهازك المحمول زاخر بأمهات الكتب والموسوعات! قل لهم: للحروف طعمها، وللجملة المقروءة في الورق إحساس خاص! فإن قالوا لك: لاتكلف نفسك وتذهب للزحام، فقل لهم كلها يوم أو أيام، وإذا لم أذهب إلى هذا المكان فإلى أين أذهب. إنه الذهب! بل إنها القيمة المضافة التي ستزيد رصيدك ورصيد أبنائك وأحفادك الى الأبد.. أطباء كانوا أم مهندسين.. محاسبين كانوا أم قانونيين.. بل إنهم لو أصبحوا ضباطا في الشرطة أو في الجيش ستكون ثقتهم بأنفسهم أكثر قوة، وكلما زادت ثقافتهم زادت ثقتهم بأنفسهم وبوطنهم وبأمتهم! قال لي شاعر كبير: إن كل ما نحبه ونعمله بإخلاص وتمتلئ به قلوبنا يترك في نفوسنا رائحته. وباختلاط الروائح في معرض الكتاب وامتزاجها، يكتسب المرء رائحته الجميلة ويكتسب المكان رائحته المميزة وهكذا.. فلكل كاتب هنا شاعرًا كان أم قاصًا أو روائيًا رائحته الخاصة وعبقه المميز. جان بول سارتر يشرح قيمة الزائر لمعرض الكتاب! توقفت كثيرًا مع رائعة الفيلسوف جان بول سارتير «ما الأدب» ؟! كان كما لو أنه يشرح لزوار المعرض العلاقة بينهم كقراء وبين الكتاب والمفكرين الذين اختاروا أعمالهم.. يقول سارتر: إن العمل الفني لا يتم وجوده إلا بالقراءة! وحيث إن على الفنان أن يكل إلى آخر، مهمة إتمام ما بدأ، وحيث إنه لا يستطيع إدراك أهميته في تأليفه، إلا من ثنايا وعي القارئ، فإذن كل عمل أدبي دعوة موجهة الى القارئ ليخرج الى الوجود ما حاولته من اكتشاف مستعينا باللغة. فإن سأل سائل: وإلام تلك الدعوة من الكاتب؟ فالاجابة ميسورة: بما أنه لا سبيل الى العثور في الموضوع على السبب الكافي لظهوره في هذا الجمال الفني لا في نفس الكتاب ولا في تفكير الكتاب، إذن فظهور العمل حدث جيد لا سبيل الى شرحه بالأفكار الذاتية السابقة عليه! وحيث إن هذا الخلق الفني الموجه بداية مطلقة، إذن هو من ثمرات حرية القارئ في أصفى ما تحمل هذه الحرية من معنى, وبذا تكون تكون الكتابة دعوة موجهة من الكاتب الى حرية القارئ لتكون عونا للكاتب على إنتاج عمله! كيف نشعر بالجمال وبلذة القراءة كنت قد مررت بكورنيش جدة الجديد قبل الوصول الى معرض جدة الدولي، فلما أدهشني اختيار موقعه، وتعمد المنظمين ملاصقته للبحر، وجدتني أبحث في المنصات عمن يبيع للفيلسوف الألماني «كانط» لا لشيء سوى لأعرف سر هذا الإحساس بالجمال وبلذة القراءة! إن «كانط» يعد المتعة الفنية غاية في ذاتها، فلا ينبغي أن نبحث وراءها عن غاية خلقية أو اجتماعية، وبعبارة أخرى فإنه يدعو لنظرية «الفن للفن» حيث يرى أن الحكم الجمالي يختص بمميزات أولها من ناحية وصفه: أن حكم الذوق ينبغي أن يكون صادرًا عن ارتضاء لا تدفع إليه منفعة! ولأن ذلك كذلك، لم أمنع نفسي من البدء في إعادة قراءة شوبنهور والبير كامي بل وديكارت.. كل هؤلاء وغيرهم موجودون داخل معرض جدة الدولي للكتاب.. لقد أتاح المعرض للقارئ النهم كل ما يطلبه من إبداعات ستيوارت مل وأوغسطين حتى موسى بن ميمون. «التنوير» هو العنوان الحقيقي للدورة الحالية الآن يمكن القول بضمير مستريح: إن هذه الدورة من أعمال معرض جدة الدولي للكتاب هي دورة التنوير! ومن الواضح أن الرقيب السعودي على المعرض هذا العام فضلا عن الأعوام المقبلة سيعتمد من الآن على حس ووعي وضمير ووطنية القارئ وليس على أي شيء آخر! من كان يصدق أنك ستقتني بسهولة رائعة صمويل هنتجتون «النظام السياسي في مجتمعات متغيرة»؟! أو «في قبوي» لدستوفسكي؟ أو الجنرال في متاهته لغابريل غارسيا ماركيز؟ أو حتى فلسفة الدين لعبدالجبار الرفاعي أو إشكالية العقل والدين عند ديكارت! أو تاريخ الجنسانية لميشال فوكو؟ أو قبلات نتشه لانس أولسن؟ من كان يصدق أن ستطلع على كل أو معظم أعمال تولستوي وجين أوستن وباولا هوكينز؟ وفي الفلسفة والاجتماع على أعمال أرنست رينان خاصة مؤلفه الشهير «ابن رشد والراشدية» ناهيك عن لوك فيري «أجمل قصة في تاريخ الفلسفة» وفؤاد زكريا «اسبينوزا» ودان سبير «البنيوية في الانثروبولوجيا»؟ وفي الاسلاميات والأديان «الآخر والآخرون» في القرآن» ليوسف الصديق، و»الاسلام في سياقه التاريخي» لسلامة كيلة، و»الاسلام وأصول الحكم «دراسة لنصر حامد أبو زيد؟ من كان يصدق أنك ستشتري من جدة، ابنة الجحيم لجورج أورويل، أو «أغنية الجليد والنار» لجورج مارتن؟ أو «الام» لمكسيم جوركي؟.