إني أتألم فأنا إنسان على وزن : العبارة الوجودية الخالدة التي أطلقها ديكارت «أنا أفكر فأنا إنسان « ، الألم أيضاً إحساس وجودي، الحزن والألم جزء من التكوين الإنساني، مشاعر الفرح والسعادة، الحب والكره، الرغبة والرهبة، ثنائيات تقتحم حياتنا في أي لحظة يعن لها ذلك، لكن يظل الألم رمز الحياة وتوأمها، لا يتخلى عنها إلا على أعتاب الموت، يتخلص الإنسان بموته من كل تلك الثنائيات الوجودية، لذلك يعتبر الموت راحة في ثقافتنا العربية؛ فإذا كان الموت يمثل أقصى حالات الراحة للميت، فهو يقدم للأحياء الذين شهدوا لحظة الموت وتخلص الإنسان من شقائه الأبدي فوائد جمة ربما تفوق فوائد السفر السبعة يقول عبد الرحمن منيف: في أحد حوارات شرق المتوسط ( الموت يعيد صياغة البشر، ويجعلهم أكثر إحساساً بالحياة) لأنه منتهى الألم وأقساه. كل الآلام يمكنك احتمالها ويمكنك الصبر عليها حتى تتلاشى وتزول من الجسد أو من النفس لكن ألم فقد عزيز ؛ أب ، أم ، أخ ، ابن أو ابنة فوق طاقة الاحتمال، لأنك لا تملك مُسكِّنا يخفف وطأة الألم غير الصبر، ولاتملك مشرطاً يستأصل مكمن الألم غير الإيمان العميق، بأن ( كل نفس ذائقة الموت ) وأن ( لكل أجل كتاب ) وأن كل ما تفتقت عنه العقول في كل الثقافات والعصور لا يملك شيئاً أمام سطوة الموت وقوته ومباغتته؛ إذاً لابد من الاستسلام والتسليم بأمر الله، وإعادة التفكير في جدوى حياة على كف عفريت أو بين أيادي الله! أحياناً تقف عاجزاً أمام حزن أم فقدت ابناً أو بنتاً في لحظة غامضة ومباغتة، اختطفت زهرة القلب قطرة الندى، نجمة العمر التي تضيء سماء حياتها، تشعر بموجة الألم تغمر قلبك، وحزناً مزدوجاً يجثم على صدرك، وفجأة يخرجك صبرها وصمتها وبشائر الرضا على قسماتها من حالتك الغارقة في الحزن، ويوخز إيمانك استسلامها ورضاها بأمر الله، تظن أنها نفضت عنها أردية الحزن والألم، الأمر ليس كذلك، فكل شئ يبدأ صغيراً ويكبر، إلا المصيبة، تبدأ كبيرة ثم تصغر ثم تتلاشى بمرور الأيام .. تلك سنة الحياة، إلا فقد الأم أو الأب، أحد الإخوة، أحد الأبناء، يكبر مع الأيام، ويكبر الفراغ داخل النفس والوجدان، يتعاظم الألم كلما مرت مناسبة فرح، وغاب عنها الأحبة الراحلون، تشعر أن الفرحة شوهاء عرجاء أو عمياء لأنها ارتطمت بك وفي صدرك كل هذا الفراغ المتدثر بسواد الحزن. الحزن والألم هما الأكثر حضوراً، والأعلى رصيداً في حياة البشر، لا يفرق بين الصغير والكبير، الغني والفقير، وبين الملك والغفير، يصبح الفرح ( صيده ) كما يقول المكيّون، إلا أن بعض الناس لا يستجيب للفرح إلا على وجل، يضع يده على قلبه، متمتماً ( اللهم اجعله خير ) كأن لحظة الفرح مصيدة أو شبكة تُنصب له ليقع في شراك الحزن والألم، أو أن لحظة الفرح ومضة ضوء يسحقها الحزن الرابض خلفها، نخاف الارتماء في حضن اللحظة الضاحكة ، ونفشل في اصطياد الفرح، لكنك تشعر بإنسانيتك أكثر وأنت تشارك الناس أحزانهم، تشعر بإنسانيتك ووجودك وكيانك عندما تمتلئ بالحزن والألم، خصوصاً الخاص والشخصي هو الذي يعيد صياغتك تصبح أكثر عطاء وأكثر حكمة وأكثر حباً لمن حولك، أنظر إلى الأم المكلومة بعد فترة من الزمن ستجدها أكثر صفاء ونقاء، لأن الألم والحزن أصبحا جزءاً من وجودها وكيانها وشخصيتها فهي تتفاعل مع آلام من حولها، لأنها الأكثر علماً بدروب الآلام ومنعطفاتها، وأكثر خبرة بتأثير الحزن وآثاره الموشومة في صدرها وعلى صفحة قلبها، فالحزن والألم يعيد دوزنة الإحساس بالحياة ذاتها، كما يدوزن الموسيقي آلة عزفه لتوافق نغمات النوتة الموسيقية. لكل من سبقونا إلى جنات الخلد، ومقعد صدق في الدار الآخرة أفراحنا وأعيادنا توشت أطراف ثيابها بالحزن والألم منذ رحلتم عنا.