من المعروف أنَّه شاع في تاريخ أدبنا تأليف «المختارات الأدبيَّة» منذ القرن الثَّاني الهجري على يد بعض الرُّواة والنُّقَّاد، وذلك حين عمدوا إلى اختيار نصوص شعريَّة نالت إعجابهم، فجمعوها، وصنَّفوها في كتب نالت شهرةً واسعةً، وفي مقدِّمة تلك المختارات الشِّعريَّة «المفضليَّات» و»الأصمعيَّات»، وما تلاها بعد ذلك من مصنَّفات مختارة ك»الحماسة» لأبي تمَّام، و»الحماسة» للبحتري، وغيرها. وقد جمعت مختارات غيرها بين النَّثر والشِّعر، وفي مقدِمة ذلك «البيان والتَّبيين»، و»عيون الأخبار»، و»العقد الفريد»، و»محاضرات الأدباء» وغيرها ممَّا غلب عليه طابع التَّجميع والاختيار من كتب المنادمة والأسمار، وروايات الأخبار، والقصص التَّاريخيَّة، فبرزت تلك المختارات موشَّاةً بأنواع مختلفة من الآداب، كالخطب والوصايا، والأمثال، والحكم، والأشعار، والنَّوادر، والطُّرف، والأقوال المأثورة، التي تجذب القارئ، وتشدُّ انتباهه، وتمنحه لغةً رصينةً، وحسًّا أدبيًّا عاليًا، ومقدرةً على التَّمييز بين أصناف تلك المختارات، وما فيها من لفتات بديعة، يحظى مَن يطالعها بما يهذِّب النَّفس، ويرقِّق الحس، ويطلق اللِّسان، ويقوِّي الحجَّة والبيان. ولا شكَّ أن «الاختيار» بمفرده فنٌّ رفيعٌ من الفنون المختلفة، وهو دليلٌ على عقل صاحبه، ولذا قال أحدهم: «اختيارُ الكلام أشدُّ من نَحْتِ السِّهام»، وكما قيل: «اختيارُ المرءِ وافدُ عقلهِ، ورائدُ فضله»، وهو ملمحٌ بديعٌ، وجانبٌ انبرى له النُّقَّادُ القدماء، ووضعوا عليه تعليقاتهم الأدبيَّة، وأحكامهم النَّقديَّة، وشهدوا بالفضل لصاحبه، وما حاز فيه تقدمه بين أقرانه ومجايليه. وكما ذاعت تلك المختارات عند المشرقيين، فإنَّها أخذت كذلك مكانتها عند الأندلسيين، وبخاصَّة في عصر مملكة غرناطة، وغيره من المراحل السِّياسيَّة التي شهدتها الأندلس، ونبغ فيهم بعض الأدباء الأعلام، ومنهم علي بن عبدالرحمن بن هذيل، صاحب «مقالات الأدباء ومناظرات النُّجباء»، الذي صنَّفه في أواخر القرن الثامن الهجري، كما ألف غيره من المصنَّفات ك»حلية الفرسان وشعار الشُّجعان»، و»تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس». وفي مقالات الأدباء جانب بديع النَّوادر، والوصايا، والأشعار، والأقوال المأثورة. وممَّا ساقه من أشعار قول القائل: كُنْ لِلْمَكَارِهِ بِالْعَزَاءِ مُعَلِّقًا فَلَقَلَّ يَوْمًا لَا تَرَى مَا تَكْرَهُ فَلَرُبَّما اِستَتَرَ الفَتى فَتنافَسَت فيهِ العُيونُ وَإِنَّهُ لَمُمَوَّهُ وَلَرُبَّمَا ابْتَسَمَ اللَّبيبُ مِنَ الْأَذَى وفؤادُهُ مِنْ حَرِّهِ يَتَأَوَّهُ وَلَرُبَّما خَزَنَ التَّقيُّ لِسانَهُ حَذَرَ الجَوابِ، وَإِنَّهُ لَمُفَوَّهُ وممَّا أورد من الوصايا قول ابن عباس -رضي الله عنهما- «لا يزهدنَّك في المعروف كفر مَن كفره، فإنَّه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه، وإنِّي -والله- ما رأيت أحدًا أسعفته في حاجة إلاَّ أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت أحدًا رددته عن حاجة إلاَّ أظلم ما بيني وبينه». وممَّا أورد من القصص أنَّ «ثلاثة إخوة خطبوا إلى عمِّهم ثلاث بنات له، فقال: مرحبًا بكم لآدم عهدكم، ولا أستطيع ردَّكم. أخبروني عن مكارم الأخلاق: فقال الأكبر: الصون للعرض، والجزاء بالقرض. وقال الأوسط: النُّهوض بالثّقل، والأخذ بالفضل. وقال الأصغر: الوفاء بالعهد، والإنجاز للوعد. قال: أحسنتم في الجواب، ووافقتم الصَّواب، فأخبروني عن أحكم كلمة، واصدقوا: فقال الأكبر: سبيل النَّاس الموت، وغايتهم الفوت. وقال الأوسط: مَن أحبَّ الدُّنيا ضرَّته، ومَن أبغضها نفعته. وقال الأصغر: لا يُخلِّد المرء الحذر، ولا يعدوه الغَرَر. قال صدقتم، ووافقتم، وزوَّجهم». ويحوي الكتاب جملة غزيرة من القصص والوصايا والحكم والأقوال المأثورة التي ضمَّنها مختاراته البديعة.