وأنا أتتبع الأخبار عبر الشاشات العالمية، بعد العملية الإرهابية التي نفذت في ميترو سان بيترسبورغ، ثاني أهم مدينة روسية، فوجئت في الشريط السفلي بأن مرتكب الجريمة شخص كيرغيزي، أي من الجمهورية المستقلة كيرغيزيا. فوجئت كيف تنجب النار رمادًا كثيفًا. الجمهوريات الجديدة يفترض أن تعيد بناء نفسها بالشكل الذي تراه مناسبًا، لا أن تنقل الخراب إلى جوارها من خلال أشخاص عدميين دمروا كل الروابط الإنسانية. لكني فوجئت أكثر أنا الذي لا يعرف كيرغيزيا إلا من خلال كاتبها الكبير الروائي والقاص جنكيز إيتماتوف الذي علمنا من خلال أعماله الإبداعية كيف نحب الإنسان، والحرية، ونُقدِّس أمّنا الطبيعة التي تُدمَّر اليوم بشكلٍ منظم، ونرفض الدكتاتوريات القاتلة مهما كانت خطاباتها، واستمات من أجل حياة شعبه وثقافته، والدفع إلى الاعتراف بها. دافع عن الحق في الأديان ومنها الإسلام، التي كانت مراقبة وتحت ضغط الدولة الرسمية. فقد أعدم ستالين والده الموظف السامي، ولم يكن عمر إيتماتوف وقتها، قد تجاوز العشر سنوات. بينما اشترك إيتماتوف في العالمية الثانية في سن أربع عشرة سنة، مشتغلا في وظيفة غريبة مناسبة لسنه، إضافة إلى عمله الزراعي: توصيل خبر المقتولين على الجبهات إلى أهاليهم. اشتغل بعدها كمترجم للأدب الروسي إلى اللغة الكيرغيزية، قبل أن يلتحق بمعهد غوركي في موسكو. كتب في البداية باللغة الكيرغيزية بالخصوص روايته جميلة (1958) والمعلم الأول (1959) التي حوّلها المخرج أوندراي كونشالوفسكي إلى السينما، ثم رواية وداعا يا غوليساري. فجأة وضع الكاتب في مدار الشهرة العالمية. انتقل بعدها الى الكتابة مباشرة باللغة الروسية، بوصفها اللغة المشتركة بين جميع جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا. كتب بها روايته الكبيرة السفينة البيضاء التي أظهرت بشكل جلي الحياة الصعبة في جبال بلدته، وتدمير الطبيعة وقسوة الذاكرة المشتركة. التقيت بإيتماتوف في نهايات السبعينيات وهو يدافع عن فيلمه السفينة البيضاء، في مهرجان السينما في دمشق، في السبعينيات. أجريت معه يومها حوارًا عن تجربته الروائية لصالح مجلة آمال التي كنت مراسلها من دمشق. قرأته بإعجابٍ شديد، من خلال ترجمات دار التقدم التي ترجمت وقتها إلى اللغة العربية، التجربة الأدبية السوفييتية بقوة، فتعرفت يومها على واحد ممن خرجوا من معطف غوغول وحلَّقوا بعيدا عنه. كان متواضعا وطيبا ومنصتا، بالخصوص عندما نبهته إلى أن ما حكاه في رواياته يشبه إلى حدٍّ كبير ما هو عندنا من أساطير وثقافات متأتية من أغوار الإنسانية والتي لا نعرف بالضبط مصدرها. يكاد يكون مشابها لما تحكيه جداتنا. كتب بعد السفينة البيضاء، نصوصاً روائية كبيرة أخرى أهمها: يوم أطول من قرن، أحلام الذئبة، الطير المهاجر، غيمة جنكيز خان الصغيرة، وأخيراً نَمِر الثلوج في 2008. وهي نفس سنة وفاته بسبب التهاب رئوي حاد، في مستشفى هامبورغ. في الوقت الذي ظل فيه إيتماتوف وفيًّا لمُثله الإنسانية العليا، ومدافعًا عن الخير والسعادة وحرية الأديان، وبنى معلما تذكاريا في بيشكيك العاصمة سمّاه (آيات بيت) قبر الأب، الذي استقبل رفاة ضحايا الستالينية في كيرغيزيا بما فيهم والده، وهو أيضا، إذ تم دفنه بنفس المكان بحسب وصيته، بعد جنازة كبيرة حضرها أكثر من عشرين ألف شخص، بعد أن أعلن رئيس كيرغيزيا يوم دفنه، 14 جوان 2008، يوم حداد وطني. جهود هذا الرجل الكبير التي أعادت للإسلام بهاءه وحقه، وللثقافات المحلية حقها في الوجود، ينب في خلائها المقفر شاب عدمي، لا هدف له إلا القتل، فيخفي قنبلة حارقة في إحدى عربات ميترو سان بيترسبورغ، ليسرق، باسم إسلام خال من أي تسامح، حياة أكثر من أربع عشرة ضحية، ذنبها الأوحد أنها وجدت نفسها في المكان غير المناسب، في الوقت غير المناسب.