لعله من المناسب بعد أن هدأ ضجيج انتخابات غرفة جدة التجارية الصناعية في دورتها العشرين، أن يكون هناك بعض الخواطر والانطباعات التي تحتاج إلى الوقوف عندها وقفات موجزة، ومناقشتها بشفافية وواقعية، عسى أن يكون في ذلك ما يساعد على تفهم بعض الانتقادات الصائبة ودحض الأخرى غير الواقعية؛ فالمفترض أن الجميع متفقون على أن الانتخابات الحرة النزيهة ليست إلا مظهراً من مظاهر المشاركة في صناعة القرار، والإسهام في التخطيط للمستقبل؛ فالانتخابات ليست إلا خطوة أولى في الاتجاه الصحيح نحو بناء مؤسسات مدنية فاعلة تقوم على الإدارة الجماعية المستنيرة؛ للحد من استبداد الإدارة الفردية وانغلاقها؛ لأن مبدأ الانتخاب والاختيار يفترض أن يقوم على قاعدة شرعية أوجزها الحق - سبحانه وتعالى - بقوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}؛ فالقوة لا تتوقف على قوة البدن وحدها، وإنما تتعداها إلى القدرة على أداء العمل على أكمل وجه، بما في ذلك الكفاءة العقلية والمهنية والعلمية، أما معنى الأمانة فلا يحتاج إلى كثير شرح. ومع أن الخبرة الانتخابية لدينا لا تزال قصيرة، وثقافتنا الانتخابية لم تصل إلى المستوى المأمول؛ إلا أن تجربة الانتخابات في الغرف التجارية والصناعية تعد من أنجح التجارب الوطنية في هذا المجال. ومثل أي انتخابات أخرى لم تسلم انتخابات غرفة جدة من اللغط والتشكيك، من قبل الخاسرين الذين لم يحالفهم الحظ في الحصول على أصوات تنافسية كافية؛ ولذا فإنه لا غرابة في أن تتعالى أصواتهم وتصريحاتهم الإعلامية الغاضبة، متهمين الجهات المنظمة أو المتنافسين الفائزين باتهامات متعددة مثل سوء التنظيم، والتكتل القبلي أو الإقليمي، أو غير ذلك.. لكن الكثيرين ممن عايشوا انتخابات جدة لهذا العام يقللون من شأن هذه الاتهامات ويعدونها ردة فعل طبيعية من متنافسين خاسرين، ويبررون ذلك بأن الذين فازوا أو الذين احتفظوا بمقاعدهم كانوا يمثلون كافة الأطياف بادية وحاضرة، ذكوراً وإناثاً، كما أن الذين خرجوا من المنافسة يمثلون الأطياف نفسها أيضاً! ولعله من المهم أيضاً الإشارة إلى حقيقة جديدة، وهي أن المجتمع أصبح أكثر رشداً في اختيار مرشحيه؛ فكان العامل الاجتماعي أكثر تأثيراً على توجه أصوات الناخبين؛ فقد أصبح المرشح الذي له دور ملموس في الأوساط الاجتماعية والأعمال الخيرية، أكثر قبولاً من أولئك الذين لا يعرفون قيمة صاحب الصوت إلا عند الحاجة إلى صوته.. ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تنحاز الأصوات إلى المتنافس الذي عرف بمبادراته البناءة في كل عمل اجتماعي، وإسهاماته الملموسة في كل مشروع أهلي، والذي لا يتأخر عن مد يد العون لمساعدة المحتاجين، والإسهام في المشاريع الخيرية مثل برامج مساعدة الشباب على الزواج، وبرامج توظيف السعوديين، وابتعاث المتميزين من الطلاب والطالبات، وتكريم الطلاب المتفوقين، وغير ذلك. وختاما؛ فما من شك أننا نجني ثمار سياسة موحد هذه البلاد الذي سعى إلى دمج كافة طبقات المجتمع وأطيافه من خلال إتاحة الفرص التعليمية والوظيفية والتجارية لجميع أبناء الوطن بادية وحاضرة دون تمييز؛ فالمواطن الذي كان يعيش طيلة قرون في البادية أصبح بفضل هذه السياسة شريكاً في نهضة الوطن، ولم تعد الوظيفة المدنية أو المهنة التجارية أو الصناعية حكراً على الأسر الحضرية العريقة في عالم المال والأعمال. كما أن سكان الصحراء في الماضي أصبحوا من سكان المدن الفاعلين، وصاروا يحملون أعلى الشهادات العلمية والمهنية.. فهل يدرك المتذمرون هذه الحقيقة؟ إذا وعينا هذه الحقيقة أدركنا أن انتخابات الغرف التجارية تمثل المجتمع تمثيلاً طبيعيًا!