نعيش هذه الأيام أحد فصول الابتعاث للدراسة في الخارج ضمن مرحلته الخامسة في برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي والمتابع عن قرب يلحظ الجهود الحثيثة الكبيرة التي بُذلت وتُبذل من أجل إنجاح هذا البرنامج المفصلي في مسيرة التعليم في المملكة. وبالرغم من ذلك كله ما زلنا نحتاج إلى عمل الكثير من أجل وضع خطط متكاملة تناسب كل مرحلة من مراحل الابتعاث الثلاث قبل مغادرة المرشح للابتعاث أرض الوطن، وأثناء تواجده في بلد الابتعاث، وبعد عودتهم من بعثته الدراسية محملاً بعلوم ومعارف اكتسبها بعد حصوله على فرصة دراسية في جامعة خارجية منحها إياه هذا البرنامج الرائد. يلحظ المتابع أنه إلى الآن لم يتم صياغة خطة تأهيلية سابقة لفترة ما قبل الابتعاث يمكن وصفها بأنها خطة متكاملة الأبعاد، وواضحة المعالم، وذات آليات تنفيذية محددة. هناك جهد بارز للعيان تم استحداثه لاستقبال طلبات الابتعاث، ومن ثم في مرحلة تالية يتم تدقيق أوراق من وقع عليه الترشح للابتعاث،وبعدها تقوم وزارة التعليم العالي بإلزام من وقع عليه الترشيح بحضور دورة توعوية قصيرة تستمر لمدة أسبوعين تقرب في مضمونها إلى الخطاب الديني على حساب طرح مواضيع يجدر أن تكون في صدر الموضوعات التي يتم طرحها على مسمع منهم على أبواب الدراسة في الخارج. والحل لهذه الإشكالية يكمن في تبني خطة متكاملة تراعي جوانب عدة تحتاجها مرحلة ما قبل مغادرة المبتعث أرض الوطن والتي يأتي على رأس أولوياتها عقد دورات قصيرة وطويلة الأجل تسعى إلى تحقيق جملة من الأهداف. وأول مفردات هذه الخطة توعية المبتعث التي يحسن أن تكون في صدر الدورات القصيرة المدى. التوعية بأهمية الفرصة الممنوحة للمبتعثين، وتوجيههم للعمل بكل ما أوتوا من قوة لاستثمار بقائهم في بلد الغربة لتحقيق أقصى درجات الاستفادة العلمية حتى يعودوا إلى أرض الوطن بمستوى تعليمي متميز تنشده مؤسساتنا العامة والخاصة. وفي الإطار نفسه يحتاج المبتعث أيضاً إلى إيضاح متكامل من قبل مجموعة من أساتذة جامعيين سبق وأن خاضوا تجربة الابتعاث، وحققوا نجاحات علمية وفكرية وهم على رأس بعثاتهم الدراسية، ويمكن كذلك الاستعانة بأكاديميين ومسؤولين من الجامعات والدول التي سوف يدرس فيها طلابنا يقومون فيه بإعطاء المرشحين للابتعاث تصور متكامل عن طبيعة المجتمعات التي سيدرس فيها الطلاب كل على حدة، وكذلك هم بحاجة إلى تزويدهم بالأنظمة التعليمية المعمول بها في الجامعات التي سيدرسون فيها. ويجب أن تعرض هذه المعلومات في قوالب تبعد عن التقليدية والطرح النظري، وأن يكون للمرشحين دور أكثر فاعلية مع المعلومة المقدمة له. ويمكن الاستفادة حين القيام بذلك من التقنية الحديثة؛ بحيث يُمكّن المرشحون للابتعاث من الوصول إلى المعلومة بأنفسهم، والتواصل مع أناس حقيقيين من تلك البلاد التي سيذهبون إليها ومن ثم العودة إلى غرف المحاضرات واستعراض ما حصلوا عليه من معلومات، ومناقشتها، ورصد أبعادها. وإلى جانب هذه الدورات القصيرة الأجل والتي يأتي ضمن أولوياتها رفع الوعي بشقيه - إن جاز التعبير بذلك -الذاتي والنظامي الذي تم استعراض جوانبه آنفاً يأتي دور التفكير بدورات طويلة الأجل نوعاً ما من أجل تحقيق عدة أهداف. طلابنا يفتقرون إلى الكثير من المهارات الرئيسية التي تتطلبها المرحلة الجامعية وما بعد الجامعية، ومن هنا فالمرشحون للابتعاث بحاجة ماسة إلى إكسابهم بعض المهارات الأساسية المتعلقة بالطرق المثلى للدراسة، والمتابعة الدورية، ومعرفة أساسيات إجراء البحوث الصفية، وكذلك إكسابهم مهارة التقديم، والحوار، والمناقشة داخل القاعات الدراسية، وتعزيز مهارات التحليل، والتفكير المستقل. وإلى جانب ذلك يفتقر العديد من المرشحين للابتعاث إلى الكفاية اللغوية ومن هنا يكمن عقد دورات لغوية طويلة الأجل نوعاً تعمل على تأهيلهم لغوياً قبل الرحيل لبلد الابتعاث وذلك من خلال إلحاقهم بمراكز تأهيل لغوي على درجة عالية من التميز، ويقوم عليها من هو مشهود له بالكفاءة في مجال تعليم اللغات الأجنبية وتدريسها. وإلى جانب ذلك ينبغي الالتفات إلى جوانب فنية مهمة. نحن بحاجة إلى الشروع في تكوين وحدة تقوم على البحث عن جامعات متميزة تحتل مراتب عليا على مستوى جامعات العالم متوخية في ذلك توفير فرص تعليمية متميزة للمبتعثين، وبخاصة ذوي التميز العلمي منهم، ومن ثم السعي للحصول على مقاعد لهم في جامعات عالمية مرموقة. والجانب الفني الآخر الذي تحتاجه مرحلة ما قبل الابتعاث التنسيق المباشر بين المؤسسات التعليمية والحكومية للوقوف على احتياجاتها من التخصصات وبعد ذلك توجيه الراغبين في الابتعاث للدراسة في تلك التخصصات. وإلى جانب افتقار هذا البرنامج إلى خطة متكاملة للمرحلة السابقة لعملية الابتعاث نجد الأمر نفسه يسري على عدم وجود خطة كاملة للمرحلة التالية أثناء تواجد المبتعث في بلد الابتعاث. فالواضح ألا يوجد حتى اللحظة خطة متكاملة تنظر في كيفية متابعة أفواج المبتعثين بمجرد حلولهم في أماكن ابتعاثهم، وتجنيد جميع الإمكانات للتجاوب الفردي والجماعي مع متطلباتهم ومتابعة مسيرتهم الدراسية، وتذليل كل الصعوبات التي ربما تعيق تلك المسيرة. وذلك فيما يبدو عائد إلى عدم وجود برنامج ذي آلية واضحة يمكن الملحقيات الثقافية السعودية من التجاوب مع الإعداد الكبيرة المتواجدة في كل بلد، وتزويد تلك الملحقيات بالعناصر البشرية الكافية العدد، وكذلك المدربة تدريباً جيداً في كيفية التعامل الأمثل مع الطلبة واحتياجاتهم. وهنا يجدر بنا التوقف برهة للإشارة إلى افتقار الملحقيات الثقافية للعنصر العنصر البشري المؤهل ليتولى عملية الإرشاد الأكاديمي على أصوله وأسسه العلمية. فملحقياتنا الثقافية ينقصها وجود أناس متخصصين بالإرشاد الأكاديمي، وعلى معرفة ودراية تامة بالمقررات الأكاديمية في كل تخصص على حدة، والسبل السليمة لإرشاد الطالب وتوجيه الوجهة الصحيحة،و بخاصة عند تعثره، ومتى ما واجهته مشكلة ما. ومما ضاعف من صعوبة مهمة المشرفين أن الكثير منهم يقوم بالإشراف على مجموعة من الطلاب المتوزعين في مناطق مختلفة في بلد الابتعاث مما يجعل الأمر في غاية الصعوبة؛ لأنه لا يمكنه بحال الإحاطة بالأنظمة التي تتبناها كل جامعة على حدة في هذا البلد أو ذاك. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما يلحظ أيضاً أن هذا البرنامج مفتقر إلى خطة مصاغة بإحكام تأخذ في الحسبان أبعاد وتبعات مرحلة ما بعد الابتعاث. في ظنىأنه لا يوجد حالياً خطط لاستيعاب واستثمار الخبرات العلمية والأكاديمية التي تحصل عليها المبتعثون من جراء بعثاتهم، ولم يتم تدارس الأدوار التي ستمنح لهم بمجرد عودتهم للإسهام في إضافة بناء لبنات التنمية، وإحداث تغييرات اجتماعية حميدة، وبعث الحراك الثقافي، والدفع بعجلة التنمية الاقتصادية، والسياسية، وغيرها من الجوانب قدما. وأيضاً لم يتم التفكير في إحداث برامج تعريفية يتعرفون من خلالها على الفرص المتاحة بسوق العمل المناسبة لتخصصاتهم العلمية، ومثلها برامج يتعرف من خلالها أرباب العمل بهم وبالتخصصات التي درسوها في الخارج. وهذا الأمر يجب أن يكون ضمن أوليات واهتمامات البرنامج؛ نظراً لأن هناك عددا كبيرا من المبتعثين سيعودون مؤهلين بدرجة البكالوريوس، وهم الذين يتساوون مع أقرانهم آلاف خريجي جامعاتنا الباحثين عن فرص وظيفية تقل يوماً بعد آخر. كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث بحاجة إلى وفقات معمقة تتبنى السرعة، والحزم، والاتكاء على خبرات محلية وعالمية لوضع تصور متكامل لكيفية التعامل الأمثل، وإيجاد خطط عمل واقعية، وقابلة للتطبيق تتناسب و كل مرحلة من مراحل الابتعاث الثلاث. نحن الآن نستثمر على ما يربو على الخمسين ألف مبتعث من أجل أن يرتقوا عاليا بالوطن لتنعم أجياله بتنمية شاملة متقدمة تجعلهم يقارعون أبناء الدول المتقدمة في الإضافة لعالم اليوم وذلك لن يتأتى من دون نظرة فاحصة متخصصة لحقبة تعليمية مفصلية لن تتكرر في المنظور القريب، ومن هنا يجب أن تشحذ الهمم لصياغة عملية ابتعاث ذات منظومة متكاملة تسير وفق منهج سليم، وخطط علمية مدروسة بعناية فائقة.