كان عنوان مقالتي في الأسبوع الماضي: (ألسنا في عصر صهيوني؟) ومن الواضح أن هذا السؤال قصد به أن يكون استفهام تقرير، ولذلك كان ختاماً، أيضاً، لتلك المقالة بعد أن أشير فيها، باختصار، إلى مواقف وأحداث متعدِّدة ترجح صحة مقالة كتبتها قبل ست.. ..سنوات بعنوان (هذا هو العصر الصهيوني). ومن المعلوم أن الولاياتالمتحدةالأمريكية أصبحت أعظم دولة تتحكم بمجريات السياسة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، رضي من رضي أو غضب من غضب، ولأنها كذلك، فإن موقفها من قضية فلسطين بالذات موقف له مكان خاصة، إذ إن تأثيره تأثير عظيم، وكان مما ذكرته في مقالة الأسبوع الماضي أن المتأمل في أحداث الماضي والحاضر يرى أن مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تختلف من حيث الجوهر اختلافاً مؤثراً، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، تماماً، كما لا تختلف سياسة زعماء الصهاينة من حيث الجوهر، مهما بدا من اختلاف، أحياناً، في تصريحات أولئك الزعماء، ولذلك؛ فإن المرء ليكاد يعتقد بأن هناك تنسيقاً بين من يقولون هذا ومن يقولون ذاك، كما أن هناك تنسيقاً بينهم في الأفعال. وكان هذا وضحاً ومؤكداً قبل قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وبعد قيامه على تلك الأرض المباركة، كان هناك جيش يأتمر بإمرة سياسيين في طليعتهم بن جوريون، وعصابات يتزعمها أمثال بيجن وشامير. وكان بن جوريون، أحياناً، يستنكر ما تقوم به تلك العصابات، لكن ذلك الاستنكار ظاهرياً أمام زعماء الغرب، الذين لم يكن يريد أن يعكّر صفو تعاطفهم مع الحركة الصهيونية. أفلم يكن، وهو يستنكر بلسانه، مؤيِّداً كل التأييد لمن يستنكر عليهم ما كانوا يقومون به؟ وإذا كان في هذا مهارة: أفليس الصهاينة بارعين فيها كل البراعة؟ أراني استطردت نوعاً ما، فأجدني أعود كي أتحدَّث عما أردت التحدُّث عنه في المقالة اليوم، ما تردِّده وسائل الإعلام المختلفة عن خلاف بين الزعامة الأمريكية والقيادة الصهيونية هذه الأيام إبان زيارة رئيس الكيان الصهيوني لأمريكا: أهو خلاف حقيقي جوهري له ما له من نتائج مهمَّة؟ أيمكن أن يكون اختلافاً بين الفريقين الأمريكي والصهيوني له فاعليته، مثل ذلك الذي حدث عام 1956م، أي قبل ثلاثة وخمسين عاماً؟ من المعلوم أن الكيان الصهيوني اضطر إلى الانسحاب من الأراضي المصرية، التي احتلها نتيجة العدوان الثلاثي التآمري على مصر، وأن أكبر جهة اضطرته إلى ذلك الانسحاب وأعظمها دوراً وفاعلية هي أمريكا بزعامة الرئيس ايزنهاور: ما الأسباب التي دفعت ذلك الرئيس القوي إلى اتخاذ ما اتخذه من مواقف؟ لا شك أنه كان رجلاً له من تاريخه، وبخاصة في الحرب العالمية الثانية، ما يسنده ويساعده في اتخاذ الموقف الذي يراه، على أن هناك أسباباً أخرى حتَّمت تبنِّي الموقف الذي تبنَّاه، كان الموقف العربي - على العموم - قوياً بتضامن زعمائه وتوحِّد مشاعر مواطنيهم بدرجة كبيرة جداً، ولذلك فإن الزعامة الامريكية حينذاك كانت تدرك فائدة إظهار وقوفها ضد العدوان الصهيوني، واحتلاله أرضاً مصرية عربية، سعياً وراء عدم تعريض مصالحها في المنطقة العربية لما قد يؤثِّر عليها. وكانت تلك الزعامة تدرك، أيضاً، أن هناك تعاطفاً عربياً رسمياً عند كثير من قيادات العرب، وعند أكثر المواطنين العرب، إن لم أقل كلهم، مع جانب من جوانب السياسة السوفيتية المعلنة، وهو محاربة الامبريالية والاستعمار، الذي كان جاثماً حينذاك على صدر بعض أقطار أمتنا العربية. ولم يكن ذلك التعاطف، الذي بدت بوادره مما كانت ترتاح له أمريكا بالتأكيد، لذلك رأت أن الموقف الذي اتخذته تجاه مطالبة الكيان الصهيوني بالانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة موقف يخدم مصلحتها في التخفيف من ذلك التعاطف أو إضعافه، فكان ما كان من اضطرار ذلك الكيان إلى الانسحاب عما احتله من الأراضي. والآن ما الذي يحدث؟ وما الذي يظن أنه سيحدث؟ كما ذكر سابقاً، تناقلت وسائل الإعلام المختلفة وجود اختلاف بين الزعامة الأمريكية والقيادة الصهيونية، من وجوه الاختلاف التي أشير إليها الموقف تجاه قيام دولة فلسطينية، وتجاه المستعمرات الصهيونية، أو ما يسمِّيها الإعلام المهيمن المستوطنات. من الواضح أن الصهاينة في فلسطينالمحتلة قد انتخبوا أبشع المتطرّفين منهم ليكونوا حكاماً لهم، وأن من هؤلاء المتطرِّفين البشعين من نادي ذات يوم بإلقاء قنبلة ذرية على السد العالي، فأصبح ركناً من أركان الحكومة المتطرفة البشعة، بل وزير خارجية لها. ممثل هذه الحكومة، رئيس وزرائها، أبى أن يتنازل عن أيِّ نقطة كان يتبناها، فلم يشر إلا إلى عدم ممانعته لأن يحكم الفلسطينيون أنفسهم، أين يحكمون أنفسهم وكيف؟ هذا ما يحدِّد مداه هو الأقوى، الجانب الأقوى، وهو الجانب الصهيوني بالتأكيد، لابد أن يفرض إرادته. كل المفاوضات السابقة، لا أظن متابعاً لها إلا وقد أصبح مقتنعاً أنها لم تؤد إلى وصول الفسطينيين إلى إعادة حقوقهم المشروعة الواضحة، بل أدَّت -بإتاحة الوقت للصهاينة- إلى تكريس الاحتلال وتهويد الأرض المحتلة يوماً بعد يوم، وربما ساعة بعد ساعة. وقيل : إن الرئيس الأمريكي أوباما طالب بإيقاف بناء المستوطنات، ألم يطالب قبله أحد من رؤساء أمريكا؟ هل استجاب الكيان الصهيوني، الذي يدرك مدى نفوذه في مراكز التأثير الأمريكية بالذات، لمطالب من طالبوه؟ كل وكالات الأنباء تذكر أن نتانياهو، قبيل ركوبه الطائرة للقاء الرئيس أوباما، وافق على بناء مستوطنات جديدة واسعة -إن لم يقل أمر ببنائها- مبدياً مدى صلفه في تحدِّي من كان ذاهباً للقائه، ناهيك عن تحدِّي الآخرين غيره من زعماء العالم. وماذا عن مطالبة نتانياهو وأقرانه من المتطرِّفين الإرهابيين من الصهاينة بأن يعترف الفلسطينيون قبل موافقته على استئناف أيِّ مفاوضات معهم بيهودية الدولة الإسرائيلية الصهيونية؟ من الأمور الواضحة وراء هذه المطالبة أن فكرة ما يقال له: (الترانسفير) للفلسطينيين، الذين هم في فلسطينالمحتلة عام 1948م ليست غائبة عن ذهنه، بل هي راسخة كل الرسوخ في فكره النتن، وأذهان أقرانه من متطرِّفي الصهاينة. على أن الرئيس الأمريكي السابق، بوش الابن، كان هو الآخر قد ذكر أنه لابد من الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، ولو فرض أن نوايا الرئيس أوباما صادقة - وليس هناك ما يجعلها غير ذلك - فهل يستطيع أن يصمد أمام قادة الكيان الصهيوني ومن يؤيِّدونهم، وهو الذي حتى الآن لم يستطع أن ينفذ بعض ما وعد بتنفيذه، قبل مجيئه للرئاسة، بشأن معتقل الخزي والجبروت والظلم في جوانتانامو، وطريقة محاكمة من هم فيه مثلا؟ من تابع تحدِّي نائب الرئيس الأمريكي السابق، تشيني، الذي كان أسوأ رجل في الإدارة الأمريكية، وأبرز من كانوا فيها، عداوة وكرها لأمتنا عربية وإسلامية، يمكن أن يخمِّن جواباً عن هذا السؤال. ومن تابع موقف الكونجرس، أيضاً، قد يزداد عنده ذلك التخمين، وهل استطاع الرئيس أوباما أن يعيِّن من أراد تعيينه في مكان أمني، لكنه لم يكن محبوباً، أو مؤيداً، لدى اللوبي الصهيوني؟ لا ينبغي - في نظري - أن يحمَّل الرجل فوق طاقته، كما لا ينبغي أن يتفاءل المتفائلون في قدرته على مغالبة قوة أعداء الحق.