يعيش كثير من البشر في صراع مع بعضهم البعض وتطاحن مستديم، والغريب أنه يكون أحياناً بسبب لا شيء، ودائرة العلاقات الإنسانية بين الناس تزداد ضيقاً مع الأيام، فلم يعد أحد يطيق غيره، والأفراد في حروب نفسية تكاد تكون مستمرة مع بعضهم البعض، مع تنوع الأشخاص والمواقف. وأكبر سبب في ذلك هو توهم عقدة الاضطهاد، فكل واحد يتخيل أنه دائماً مغلوب لذا فهو مستعد للثأر من الطرف الآخر، ومتأبط للانتقام، ولو أن كل واحد وضع نفسه مكان خصمه لرأى أنه مدين له بالكثير، لكنما هي النفس الأمارة بالسوء المفعمة بالأنانية المتشبثة بما تتوهمه حقوقها المسلوبة ومكتسباتها المغتصبة. وهذه الفكرة السلبية المجبولة في بني البشر منذ بدء الخليقة حيث دائرة الحسد التي دار في فلكها أبنا آدم شتتت شملهما بعد أن احتواهما رحم واحد مشتق من الرحمة، إلى زماننا الجميل هذا، ففكرة الغالب والمغلوب جعلت القطيعة والتناجش يتفشيان حتى بين أقرب الناس، بل إنه يزداد أحياناً بين الأقارب والأرحام! وأكبر وسائل تغذية الفتن لا تأتي من الشياطين فقط بل تتغذى من الإنس أيضاً مع أن تسميتهم مقترنة بالأنس والونس، وفي مقدمة الوسائل الجهنمية الإنسية (أسلوب التحريض)، نعم التحريض ضد بعضهم البعض، فكم من شخص كريم ساهم شيطان أنس في بتر نهر كرمه موهماً إياه أنه ساذج ومستغفل من قبل الطامعين، وكم من حليم فسر المتطوعون حلمه بأنه ضعف وبرود، وكم من ودود صادق المشاعر فسرت عواطفه بأنها تملق، وكم من وصول فسر وصاله بأنه (اللا كرامة)، وكم، وكم، وكم، حتى عشنا مجرد أشباح ولكن بلا أرواح، (نتطوع بالنصيحة المخلصة) لمن لا يطلبها بل لمن لا يحتاجها. والملاحظ أن (الحلقة المفقودة) في مشاكل معظم البشر هي أن كل طرف قد سارع في فهم الآخر فهماً خاطئاً، فكم من كلمة أرقت صاحبها وأوغرت صدره بينما قائلها ما كان يقصد بها شيئاً مسيئاً، وربما أراد خيراً للمخاطب أو المعني، وكم من تصرف عظيم فسر على غير المراد، وهذا هو ديدن الحياة فهي دار اختبار لا تغلق قاعتها الكبرى إلا بقرع أجراس النهاية حينما ينفخ في الصور، ثم تعلن النتائج النهائية بدقة متناهية عجيبة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. ولو تأمل المتأمل لوجد أن الحياة دول، وأنه لا غالب ولا مغلوب في هذه الحياة، فغالب اليوم هو مغلوب الأمس، والعكس صحيح، وكما يقول المثل الشعبي الحكيم: (كل شيء سلف ودين حتى لو كان مشياً على الرجلين)، فالجزاء والحساب يبدآن من الدنيا، يلاحظهما أولو الألباب فحسب. [email protected]