قليل من المشهورين وأصحاب الأسماء اللامعة من يكون على مستوى اسمه الكبير حين يكتشف الناس أن بعض أصحاب الأدب هم في حياتهم الخاصة وربما العامة أقل أدباً من غيرهم، وقد نرى بعض الناس يعجبون بما يكتبه كاتب ما لكنهم ما أن يلتقوه حتى يهربوا منه إما لغروره أو لأنانيته أو للاثنين معا، وهذا النوع ينطبق عليه القول المشهور: (أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) ولم يسلم من هذه الآفة إلا قلة قليلة من المشهورين وأصحاب الأقلام النظيفة الذين حظوا بإعجاب الناس وحبهم في آن واحد. وأستاذنا الشيخ عبد العزيز الرفاعي يعد من القلة القليلة في جيل رواد النهضة الأدبية السعودية الحديثة من هذا النوع، حيث استوى عنده المظهر والمخبر. كان الرجل منذ فجر شبابه يعمل في صمت ويترك أعماله تتحدث عنه لا يحب الضحية والطنطنة وبهرجة الأضواء التي يثيرها بعض الأدباء حول أنفسهم. كان يكره أن يتكلم قبل أن يعمل، فإذا تكلم قليلا ترجم ما يقوله إلى عمل، وهو يبدأ في خطوات لتنفيذ الفكرة فإذا رأى أنها ممكنة وناجحة وتخدم الناس جاء وتكلم عنها قليلاً ثم عاد يستكملها مهما كلفه ذلك من جهد ومال. ما أكثر ما سمعته يقول: (أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يحفظون سبع آيات من القرآن الذي كان يتنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يعملون بها فإذا عملوا بها حفظوا غيرها). أحب الأستاذ عبد العزيز الرفاعي الناس حتى إن شرارهم الذين لا ينجو منهم أحد ترطب ألسنتهم وتلين عند ذكر عبد العزيز الرفاعي لأنهم لم يعرفوا منه إلا قلبا متدفقاً بالحب حباً لا تحده حدود ولا تسده سدود. ولم نعرف أن الأستاذ قال لأحد: (لا) قط، وان عزّ عليه الطلب سعى لتحقيقه مهما كلفه ذلك من عناء ومال فسعادته في راحة الآخرين، قال لي أحد الذين يعيشون معه عن قرب من أصدقائه، ما رأيت الأستاذ ساعياً في خدمة مخلوق حتى أتذكر حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول فيه: (إن لله عبادا خصهم بقضاء حوائج الناس حببهم في الخير وحبب الخير إليهم إنهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة). ورغم كل ما كان له من تكريم وتقدير في حياته إلا أن تواضعه الجم وزهده في الأضواء، وكراهيته للتسابق على أماكن الظهور، كل ذلك جعله لا يحظى بالتلميع الذي يستحقه من له علمه وأدبه وحديثه. سمعته مرة يقول لأحد الصحفيين:(ليس عندي ما يفيد يا ولدي)!!. ثم أردف ضاحكاً للمصور الذي أراد أن يلتقط له عدة صور في أوضاع مختلفة: (أنا لا أعرف التمثيل ولا أحب التلميع)!!.ولكنه كان يقبل التحدث للصحفيين أو الكتابة لهم على الأصح تشجيعاً لهم لأن في ذلك مصدر رزقهم.كانت إنسانية عبد العزيز الرفاعي التي يعرفها كل من عاشره عن قرب، هي سر عظمته ونقطة ضعفه!! ولما كان الأستاذ يحب الناس كل هذا الحب، أحب الخير لهم فدلف إليه من أوسع أبو ابه وأعظمها عند الله وهو نشر العلم وخدمة المعرفة فما أكثر ما كان يكرر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (خيركم من تعلم العلم وعلمه). وهكذا ولدت دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع فكان فيها آخر من يحسب حساباً للمكسب المادي إذا أغرته القيمة الفكرية أو الأدبية للكتاب. ولم يكتف الأستاذ بدار الرفاعي في تأليف الكتب ونشرها وإنما وجدت إلى جوارها (ندوة الرفاعي) الخميسية التي تؤلف قلوب الرجال وعقولهم، فوجد الذين لا يتسع وقتهم للقراءة ما يغنيهم عن قراءة الكتب وعناء البحث فيها، فهناك الأدب والشعر والتاريخ والاجتماع وهناك علوم الدين، وقبل هذا كله يكون هناك عميد الندوة يتيح للجميع فرص المشاركة في كل شيء، ويحس كل مشارك في ندوته أنه موجود معه وحده يستمع له وينظر إليه ويطلب منه القصيدة التي شارك بها ليحتفظ بها في أرشيف الندوة. كان الأستاذ يستقبل كل من جاءه مرحبا عند الدخول ويودعه محييا إلى الباب عند الخروج. جاء إلى ندوته أناس لم يشعروا بأن لهم قيمة في مجالس الآخرين إلا عندما ارتادوا ندوة الرفاعي. هناك شعروا بمن يقدر قيمتهم كأشخاص، فقط لأنهم أناس مثلنا لا يميزهم عن الآخرين علم أو مال أو جاه وإنما اكتشف فيهم الأستاذ - بحاسته الخاصة - معدنهم الإنساني الأصيل. تخرج من ندوة الرفاعي شعراء لم يصدقوا بأنهم شعراء إلا بعد أن أتاح لهم عميد الندوة فرص إلقاء شعرهم والاستماع إلى نقد النقاد ومناقشته. وهنا يجب الانتباه إلى أن منهج الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في تأليف الكتب لا يأتِ إلا مكملاً لمنهجه في تأليف الرجال، فهو رجل تربوي في المقام الأول وإن لم يعمل بالتدريس إلا فترة قصيرة ربما لأنه أحس أن رسالته لكل الناس كباراً وصغاراً على السواء فتلاميذه في كل دروب الحياة. والدارس لمراحل حياته يجد أنه لم يستكمل مرحلة التدريس ولم يدع مرحلة التأليف لطلاب المدارس تصل إلى مدارها، وسرعان ما استجاب إلى النداء القوي - الذي يهتف في داخله - أن أكتب لإخوانك تلاميذ الحياة. ومن هذا المنظور نستطيع القول بأن منهجه في تأليف الكتب كان يخضع لظروف منهجه في تأليف الرجال، وكان يدعم بالفكرة المكتوبة ما يهدف إليه من ندوته الخميسية وما يقوله للناس في مجالسه الخاصة والعامة، ومن هناك كان حجم كتبه صغيراً ليتناسب مع أوقات الناس وقدراتهم، وهو الخبير بالنفس البشرية الذي سبر أغوارها، وعرف من أحوالها ما يعينه على التعامل معها، الأمر الذي يجعل منهجه منهجاً عملياً في جميع الأحوال. الرجال الذين ألفوا الكتب يعدون بالآلاف أما الرجال الذين ألفوا القلوب فهم يُعدون بأصابع اليد الواحدة في العصر الواحد ذلك لأن تأليف الكتب في عصرنا قد أصبح صناعة يحترفها من هو أهل لها ومن هو غير أهل، ولم يعد يُعطي لتأليف الكتب ذلك الجهد المضني الصادق الذي أعطى لها من قبل السابقين، وهو جهد لا يقدر عليه اليوم إلا أولو العزم من المؤلفين أصحاب الرسالات. فلا عجب إذن أن يكون لأستاذنا الشيخ عبد العزيز الرفاعي عدد قليل من الكتب قياساً إلى عدد القلوب التي ألفها، لهذا نجده يستوعب في ندوته قلوباً لم تتسع لها كتبه، واستطاع بفطرة الإنسان الذي فطره الله على حب الخير لعباده أن يجتذب كل أنواع الناس، فأصحابه ليسوا من الأدباء وأهل الفكر فقط وإنما هم كثير من عامة الناس ومن ذوي الميول المختلفة ومن رجال الأعمال الذين تركوا أرقامهم ودفاتر حساباتهم وهرعوا يتعاملون مع حروف الأستاذ وكلماته، ويجدون فيها مستراحاً لهم من عناء العمل، ثم لا يلبثون أن يجدوا في شخصية ذلك الرجل الحبيب الذي يحبهم ويحبونه فيلازمونه في حله وترحاله، ويحبون من حبهم له الأدب ومجالسه وبل ويؤسسون له في بيوتهم ومكاتبهم مجالس خرجت من تحت عباءة ندوة الرفاعي وحملت روحها ويفوح فيها أريجها. وهكذا يثمر تأليف الرجال وينتشر برجال أمثالهم ويبزّ تأليف الكتب التي أصبحت اليوم - للأسف - مظهراً من مظاهر الزينة تُصف على الأرفف في المكاتب وصالونات الاستقبال دون أن يعلم الكثير من أصحابها بما فيها. أراد الأستاذ عبد العزيز الرفاعي الوصول إلى هذه الحقيقة وأدرك أنها معضلة عصره فعرف كيف يعالجها من خلال ما بثه للناس من خلال ندوته من قول مسموع وما تنشره (دار الرفاعي) من قول مكتوب على أنه كطبعه في تعامله مع الناس ومعرفته بالنفس البشرية التي تضيق بكل شيء إذا طال مداه، جعل إصدارات كتبه قصيرة قدر الإمكان، وأنشأ لذلك سلسلة (المكتبة الصغيرة) وحرص على أن تكون معالجتها سهلة ميسرة ليستطيع الجميع تداولها وفهمها. وبقدر ما عطاه الله موهبة المقدرة على تخير الرجال وتأليفهم على الحب والخير والوفاء أعطاه الله موهبة حسن اختيار موضوعات كتبه ومحاضراته. والحقيقة أن المتأمل لمنهج الأستاذ في تأليف كتبه واختياراته سيجد أنه منهج أخلاقي تربوي أدبي. اقتضاه هذا (المنهج) أن يجعل موضوعات أغلب كتبه عن رجال أكثر منه عن قضايا مجردة ذلك لأنه يريد أن يضرب الأمثلة لنا بنماذج من أناس مثلنا عاشوا قبلنا تمسكوا بالقيم وعضوا عليها بالنواجذ. ومن خلال هذه الشخصيات التي كتب عنها الأستاذ يعرض القضايا والأفكار التي يريد قولها لمعاصريه نجده لا يسلك درب المشهورين في تناول الإعلام التي لاكتها ألسنة الخطباء وأقلام الأدباء بل يُنقب في زوايا التاريخ وخبايا التراث عن شخصيات مغمورة لكن عظيمة في خلقها وأدائها في الحياة. هكذا فعل عندما تناول (ضرار بن الأزور) 1397ه و(أرطأة بن سهيه) 1399ه و(زيد الخير) 1402ه وغيرها من كتبه التي أصدرتها دار الرفاعي في سلسلة (المكتبة الصغيرة) أو (من دفاتري). وقد يهدف الأستاذ إلى تناول جانب معين من شخصية تاريخية مشهورة أغفله الناس، فيميط اللثام عنه فيظهر لامعاً براقاً على نحو ما فعل في دراسته عن (كعب بن مالك) 1390ه حين لفت الأنظار إلى نثر كعب لأن سفره وحياته قد تم استيعابهما في كتب الآخرين، ليترك غيره يستثمر هذه الاكتشافات من بعده. وعندما يتعرض الأستاذ لدراسة شخصية مشهورة مثل (خولة بنت الأزور) 1397ه يبحث في جانب تحقيق وجود هذه الشخصية التاريخية، وهو جانب لم يسبقه إليه أحد من المعاصرين، وينتهي إلى مفاجأة الأوساط الأدبية والتاريخية بأن هذه البطلة التي شغلت الناس ليس لها وجود حقيقي في كتب التاريخ المعتمدة!! والدارس لمؤلفات الأستاذ لابد وأن يتوقف عند لغته وأسلوبه فالأسلوب هو الرجل كما هو معروف، وقد استطاع الأستاذ الرفاعي أن يطوع لغته وأسلوبه لخدمة منهجه التربوي الرسالي، وقد أعانت على ذلك مواهبه المبكرة في كتابة الشعر والقصة والمسرحية فسخرها في تسهيل بحوثه وتقريبها إلى أذهان القراء بأسلوب سهل مسلسل شيق يجذبك إلى سرده القصصي الذي يحبب إليك مادته العلمية. والقارئ لمؤلفات الأستاذ - خاصة إذا كان من رواد ندوته أو من جلساته - يجد في مؤلفاته ظلال طبعه في الحياة، فأنت تقرأ وتشعر كأنه يحدثك في مجلسه في تؤده وأناة، وهو فيما يكتب أو ما يقول تقف كلماته على دعامتين أساسيتين وهما (البيان) و(الإيجاز) وهما خصلتان سمتان تلخصان واقع العصر وتلبيان حاجة الناس، ولو عمل بهما كل كاتب اليوم من الذين يزحمون المكتبات ويثقلون على صدور الناس بآلاف الصفحات لتنفس الخلق الصعداء وأقبلوا على القراءة ووجدوا وقتا لها، ولكن هيهات!! لقد أدرك الأستاذ الرفاعي بحاسة الإنسان الذي يعيش عصره هذه المأساة ولكنه لأدبه الجم لم يذكرها وهو يتحدث عن كتبه في كتابه (رحلتي مع التأليف) وبدلاً من ذلك أسرف في التواضع ولم يعد نفسه في عداد المؤلفين لأنه لم يكتب إلا كتيبات صغيرة تضيع إلى جوار أصحاب المجلدات الضخمة، وتناسى عشرات المحاضرات والندوات التي لو جمعت لغدت مجلدات، وتناسى مئات القلوب التي ألفها في وطنه وعالمه العربي والإسلامي، ولكنها شيمة العالم وتواضع الكريم وخُلق النبيل. [email protected]