برزت في الآونة الأخيرة عدد من الظواهر الجديدة من التشدق بالمظاهر التي حسبناها قد انحسرت من مدها الأساسي (الطبقي) الذي أفرزته موجة قديمة من التظاهر بحرف الدال (الدكتوراه) والتي طغت على الحراك العلمي والعملي في المملكة حتى بدت الأمور للكثير حينها أن من ليس معه شهادة دكتوراه ليس له محل على الخارطة الفكرية والمناصب المهمة. لماذا هذا التشدق الغريب والولع الشديد بالمظاهر بين أروقة المهنيين؟ من المسئول عن تفشي مثل هذه الظواهر الغريبة التي ليس لها شبيه في العالم المتقدم؟ من يسره بقاء الحال على ما هو عليه واستمرار تلك الظواهر (الطبقية) غير (المنصفة)؟ أسئلة أحسب أن الإجابة عنها بدقة ستكون نواة لتصحيح وضع منحرف يقدس الشكل على حساب المضمون. المتابع للصفحات الاقتصادية من الصحف المحلية والبرامج الاقتصادية التلفزيونية يرى بعضا من المحللين والخبراء الماليين والاقتصاديين وقد سبق أسماءهم حرف دال (مشبوه) أو ذيلوا مقالاتهم بأنهم أعضاء في الجمعيات المهنية السعودية وكأن الانتساب لإحدى تلك الجمعيات هو بمثابة شهادة المرور لعالم التحليل المالي والاقتصادي. ولكن من المسئول عن التحقق من قيمة ما يقدمه بعض المحللين (إن جاز لنا أن نطلق مثل هذا التعبير عليهم) للعامة خصوصا وأن أغلب العامة هم من الطبقة الأقل حظاً علمياً وهم من يتأثر كثيراً بمعسول الكلام وحسنه لا بمدلول الكلام وأصله ومنطقه؟ هل هي الجمعيات المهنية التي يجب عليها التدقيق والحرص في منح عضويتها لمن يستحقها فعلا من واقع شهاداته العلمية المعترف بها وخبراته المهنية الموثقة أم يقع اللوم على وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية في التحري والتدقيق في خبرات ومؤهلات من تستضيفهم من المختصين؟ لنأخذ على سبيل المثال عضوية جمعية الاقتصاد السعودية وهي جمعية نقدرها ونجل دورها ونتمنى لها التقدم والنجاح والاستمرار ولكن المتمسحين بمسوحها وللأسف والمستغلين لعضويتها زادوا من استخدامهم لها في الآونة الأخيرة خصوصا ممن تستضيفهم وسائل الإعلام حتى يخيل للمتابع لوسائل الإعلام الاقتصادية المحلية أن هذه العضوية لا تمنح إلا للصفوة من جهابذة الاقتصاد وعتاولته لكي يستخدمها بعضهم في عنونة انتماءاتهم المهنية، مع أني أتفهم قصد بعضهم ممن يستخدمها لعدم رغبته في إظهار انتسابه العملي الحقيقي أو لعدم وجود مهنة أصلاً له ولكن اللغة العربية غنية بألقاب أكثر واقعية ومصداقية يمكن استخدامها عوضا عن ذلك. حاولت من باب الفضول أن أتعرف على معايير الجمعية بشكل أكبر لعلي أرى ما يجعلني أكثر ثقة بقيمة إسهامات المختصين من المنتسبين لها ولكني لم أجد في شروط عضوية الجمعية ما يميز (الغالبية) من أعضائها عن غيرهم من عامة الناس إذا لماذا يستغل أولئك كل هذا التظاهر بغير ما يخفيه الواقع؟ سؤال نسوقه للجمعيات المهنية ومنها جمعية الاقتصاد السعودية بالتحديد لكيلا يكون عليها من حرج وهي في الواقع لا تتحمل مسؤولية هذه الظاهرة بشكل مباشر. أما قضيتنا الرئيسية الأخرى (المزمنة) فهي الاعتداد غير المبرر بحرف الدال التي حسِبنا أنها قد انحسرت وتلاشت حتى وقت قريب ولكن في السنوات الخمس الماضية تفشت هذه الظاهرة مرة أخرى وبشكل غريب حتى أصبح السعي للحصول عليها بشتى الطرق وأيسرها هو الشغل الشاغل للكثيرين والمصيبة أن بعضهم من الأسماء المعروفة الذين حصلوا على كل شيء تقريبا ولم يبق لهم إلا حرف الدال لإكمال رصيدهم. إلى عهد قريب كان الاعتقاد السائد أن حصول الشخص على مؤهل الدكتوراه هو بمثابة الحصول على جواز المرور للوظائف القيادية الحكومية وكأننا كسعوديين ابتكرنا غاية أخرى من تقديم برامج الدكتوراه في الجامعات فأصبح الهدف لدينا من (الدال) هو الحصول على الوظائف الحكومية المهمة والجاه الاجتماعي بينما المتعارف عليه أن برامج الدكتوراه وضعت وخصوصا في العالم المتقدم لإعداد الأكاديميين والباحثين للعمل في الميادين البحثية والأكاديمية كالتدريس في الجامعات والعمل بمراكز البحوث والاستشارات. تفشي ظاهرة السعي للمظاهر (العلمية والعملية) بلا أدنى شك ساهمت فيه كثير من مؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية نظرا لتركيزها، ربما دون قصد، على الشكل دون المضمون حتى وصل الأمر بفئة ليست بالقليلة إلى شراء الشهادات الجامعية وخصوصا الدكتوراه أملا في كسب احترام المجتمع لأن المجتمع بشقيه الرسمي والشعبي يبدو كمن يولي الشكليات قيمة أكبر مما يحمله الشخص من فكر. المصيبة أننا أصبحنا نرى بعض ممن حصل على الدال بالطرق المشبوهة وقد ظهروا بوسائل الإعلام كخبراء ومختصين وقد سبق أسمائهم حرف الدال دون أية مراعاة لأبسط القواعد المهنية، فمن المسئول عن تفشي هذه الظاهرة بشكلها الحالي مرة أخرى وعن الضرر الذي قد تحدثه آراؤهم لدى العامة من الناس ثم ما هو ذنب ذلك الشخص الذي قضى زهرة حياته في التحصيل العلمي لكي يحصل على شهادة الدكتوراه وهو يرى الكثير و قد حصلوا عليها بأيسر الطرق وأسهلها، أليس في هذا نوع من الغبن؟ أليس في ذلك نوع من التضليل والتدليس؟ أسئلة تدور ولا نجد لها إجابات وللأسف داخل مجتمعنا وسائل الإعلام ملومة أيضا في تفشي مثل هذه الظاهرة لكونها لم تضع معايير عملية تمكنها من اختيار ضيوفها من المختصين عند استضافتهم للتعليق والتحليل في المجالات المختلفة وخصوصا الاقتصادية منها فترى بعض الأشخاص وهم أبعد ما يكونون للموضوع قيد المناقشة وقد أصبحوا الخبراء. قد نعطي وسائل الإعلام وخصوصا المكتوبة منها العذر في بعض ممارساتها في هذا الجانب فالصحافة المكتوبة هي أيضا مكان للرأي والرأي الآخر بحيث يعبر كل شخص عن رأيه وهذا لا يختلف عليه اثنان إذا كان ذلك في شكل مقال أو تعليق، ولكن يجب ألا يمنح أي كاتب صفة المحلل والخبير إلا إذا كان من ذوي التأهيل العلمي والممارسة في مجاله. ترى ما هي ردة فعل المختصين ذوي الكفاءة والخبرة عند مشاهدة مثل هؤلاء وهم يفتون دون أية دراية وخبرة بالمجال، الأكيد أنهم سيكونون محبطين من الحال التي وصلت إليها وسائل إعلامنا حتى أصبحنا نرى تلك الممارسات غير المنصفة وقد غزت تلك القنوات والصحف فانحرفت عن أهدافها الإعلامية السامية ومنها تحري الدقة في مصادرها. لعلي هنا أيضا أعطي نوعا من العذر لوسائل الإعلام لافتقادها مؤسسات علمية ومهنية متخصصة تساعدها في الوصول إلى المختصين أو عزوف الكثير من المختصين عن الظهور الإعلامي. بعض وسائل الإعلام المحلية وخصوصا المكتوبة متهمة أيضا في اتباع أساليب غير مهنية في اختيارها للكتاب ففتحت الباب على مصراعيه لكل من هب ودب للكتابة وهذا فيه الكثير من تضارب المصالح. قد يكون مثل هذا التعامل عادلاً لمن هم من أشباه الكتاب والساعين إلى (الظهور الإعلامي) بكل الأشكال ولكن بالتأكيد أن مثل هذا الوضع قد يظلم الموهوبين من الكتاب. مسألة التحليل المالي والاقتصادي قضية في غاية (الحساسية) لكونها ترتبط بمدخرات الناس واستثماراتهم، فمن الواجب ألا يفتي فيها إلا من هو أهل لها لكيلا يتضرر منها العامة وتتسبب في اتخاذ قرارات قد تفقدهم ممتلكاتهم، وهذا يلقي بالعبء على الجمعيات المهنية لإعادة حساباتها وتنظيم عملها بشكل أكبر من خلال تصنيف عضوياتها بشكل عملي لكي يتم التمييز بين العضو الكامل العضوية المؤهل للتحليل والأعضاء العاديين الآخرين. كما أن على الجمعيات المهنية أن تضع شروطاً أكثر صرامة ودقة وخصوصا للعضويات العاملة وكذلك إلزام جميع الأعضاء بالموافقة على ميثاق لشرف المهنة code of conducts قبل قبوله في عضوية الجمعية على أن يكون هذا الميثاق ملزماً ومحترماً من جميع الأعضاء مع وضع آليات للمراقبة. قد أتفهم وجهة نظر بعض الجمعيات المهنية في اعتقادها بأن تخفيف القيود على العضوية وخصوصا في مراحل التأسيس مهم جداً حتى تكون لها قاعدة كبيرة من الأعضاء يساهمون باشتراكاتهم المالية في تطوير التنظيمات الداخلية لديها في مرحلة لاحقة، ولكن من وجهة نظري الخاصة أن الكم يجب ألا يأخذ الأسبقية من الكيف خصوصا والمعني هنا تجمع مهني من المفترض أن يضم ابرز الكفاءات والخبرات في مجال ما. من السلبيات الأخرى لفتح الباب على مصراعيه لكل من هب ودب للاشتراك بداعي تعزيز مداخيل الجمعية وتعزيز قاعدتها من الأعضاء هو إحجام القيادات والخبرات الأكثر تميزاً في المجال من الاشتراك لإيمانها بانحراف الجمعية عن أهدافها التي من اجلها وجدت. أما بالنسبة لوسائل الإعلام فهي ملزمة بالتحري والتدقيق خصوصا عندما يكون الأمر متعلقا بموضوع شديد الحساسية كالاقتصاد والاستثمار فهناك الكثير من المصادر التي يمكن لوسائل الإعلام الاعتماد عليها عند اختيار المختصين من مجال الأعمال والاقتصاد من ذوي الخبرة الطويلة والتأهيل المتخصص في دراسات أسواق المال وأوعية الاستثمار من البنوك والشركات والمؤسسات المالية والاستثمارية المتخصصة والمشهود لها بالخبرة. لا أدري لماذا لا تقوم وسائل الإعلام بالبحث عن المختصين ممن يحملون الزمالات المهنية المتخصصة في التحليل كزمالة المحللين الماليين CFA وهي من أبرز وأهم الزمالات ومجرد حصول المختص على زمالتها الكاملة بعد اجتياز الاختبارات الثلاث الرئيسية والتي عادة ما تأخذ أكثر من سنتين لاجتيازها هو بمثابة احد المعايير المهمة التي يمكن لوسائل الإعلام تطبيقها عند اختيار محلليها. الصعوبة قد تكمن في أنه حسب أفضل معلوماتي الشبه مؤكدة أن حملة زمالة المحللين الماليين CFA من السعوديين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ولكن مسألة الصعوبة في الوصول إليهم يجب ألا تكون عذرا في التقصير والإضرار بالناس.