من يتأمل في كثيرمن الآليات التي يتم من خلالها قراءة النصوص الدينية يجد أن هناك آليات كثيرة، من أبرزها نوعان من الآليات وهما بطبيعتهما متناقضان لا يتفقان إلا في ممارسة التلاعب الدلالي الذي يتجلى عندهما في أبشع صوره. (النوع الأول) : تلك الآليات المنطلقة على ضوء المناهج الإنسانية الحديثة كالمنهج الفينولوجي والمنهج الفينومينولوجي والمدارس التوليدية والبنيوية البارتية والاستراتيجية التفكيكية الدريدية التي في حقيقتها ليست إلا رمزا للإفلاس الروحي والعمه الحضاري بحسبها منهج اللا معنى الذي يمثل الشك وانعدام اليقين الحقيقة المطلقة الوحيدة التي يتوافر عليها!؛ الأفق الغائي الذي ترومه هذه المناهج وتسعى وبجهد مكثف لمعانقته هو إقصاء الميتافيزيقي لصالح الفيزيقي، ونسبنة المطلق، وأنسنة النص وتأكيد أرخنته وتكريس بشريته وأنه نابع من ذات الإنسان لا نازلا عليها من المطلق المفارق؛ إنها مناهج تقويضية تقوم على أساس لا نهائية المعنى وعلى موت المؤلف وخرافة القصدية وانعدام البراءة في القراءة. إنها تطبق العلوم الإنسانية على النصوص الدينية نازعة عنها القدسية وفاتحة مجالا أوسع للتأويل عبر تحطيم السياق وتفكيك العلاقات المتموضعة بين ثنايا التركيب العباراتي ومانحة دورا أكبر للقارئ في إعادة انتاج مداليل جديدة في سياقات جديدة لا علاقة لها البتة بالسياق الذي أنتج فيه النص ومعناه الأول، هذه المناهج الحديثة القاسم المشترك بينها هو عقدة اختراق النص واستدرار مداليله واستقطارخوافيه واستعصار نُكَته التى عزبت - من شدة لطافتها!- عن ذهنية خيار الأمة الأوائل!، والاعتقاد اليقيني الجازم بأن من لم يباشر عملية التفجير للنص الديني عبر المسالك الهرمينوطيقية فهو ذو عقل متكلس ينتمي إلى الإطار الكلاسيكي الذي يعيش في غيبوبة الماضي السحيق!. هذه القراءات العلمانوية التي لا تسمي القرآن باسمه، بل تسميه المدونة الكبرى وسبب النزول تنعته ب(الواقعة القرآنية)، ترى انه لا يوجد نص محكم ذو بعد دلالي واحد، فأبدية الدلالة يتعذر وجودها في النص الديني!، ولو كان كذلك لكان ذو طبيعة امبريالية (كولونيالية). النص في تصورهم اليوتوبي ثري، وكونه كذلك فهذا يعني أنه مخاتل مراوغ ملتبس توليدي باستمرار، يتسم بالنسبية ولا نهائية المعنى لانفتاحه على كافة التصورات التأويلية ولتشظيه الإيحائي إلى ما لا نهاية!. إنها كارثة بكل المقايس أن يفسَّر النص القرآني والنبوي بناء على تلك الهواجس الوسواسية التي قال بها حثالة من الهرمينوطيقيين مثل شلايرماخرأوها يدغرأوآلتوسيرأورولان بارت، أودريدا، وفوكو، وباختين، وريكو، وتحييد علماء فطاحلة كالشافعي ومالك وابوحنيفة وابن تيمية وأحمد بن حنبل والغزالي ونحوهم، إنها عبثية صبيانية أن يدرَس القرآن، وهو كلام رب العالمين دراسة ألسنية لغوية محضة وتحليل سيميائي دلالي كما نرى عند الدكتور محمد اركون الذي يعاني من رهاب نصي يتملكه في العمق على نحو حداه إلى أن امتهن - وبصفاقة متناهية يعز مضارعها - مصادمة النصوص عبر نزعة جونجورية (اللغة المعقدة والفكرة الغامضة) يجري من خلالها تورخة المتعالي وتقويض المقدس بتغييب بعده الالهي!. هذه المناهج التي تتفنن وباستعراضية مقيتة بإهانة النص طمعا - كجزء من مطمحها اليوتوبي! - في زحزحة مقامه العلوي الجليل يقابلها (النوع الثاني) وهو الطرف الأولي المستهدف بهذه القراءة، ذلك النوع يتمثل في خطاب التكفير ذلك الخطاب المتجرد من بديهيات القراءة الفاعلة فهو يركز على ظواهر النصوص كتدشين مبدئي لنفيها، ويتجافى عن روحها، ويفتقد لأدوات فقه النص ذلك الفقه الذي لا يجري تخلقه الا عبر معاينة مقاصده ومآلاته وعوارضه المؤثرة عليه من تخصيص وتقييد وتأويل وبيان ونسخ ونحوها. إن التعاطي مع ظاهر النص وصرف النظر عن مكونه المقاصدي وعدم التمعن في ماورائياته، وتأويله بمجرد متجلي لغته، وظاهر منحاه السياقي شأن يفضي في كثير من الأحيان إلى الوقوع في اللبس حيث تبدو النصوص وكما لو كانت متعارضة ينقض بعضها بعضا، ودونك هذا المثال، فمن يقرأ قوله سبحانه: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُو}(سورة البقرة)(81) فمن يأخذ بالبعد الظاهري للآية يحكم على الكاسب للسيئة بالكفر والخلود في النار بمجرد المعصية، ولكن إبان النفاذ إلى عمق محتوى المادة النصية واستكناه طبيعة مؤدياتها وضم النصوص بعضها إلى بعض يتجلى أن السيئة والخطيئة تطلقان على الشرك فما دونه من السيئات والخطايا، فمن إطلاقهاعلى الشرك قوله سبحانه: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}(25) سورة نوح ومن إطلاقهاعلى ما دون الشرك قوله سبحانه:{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ }(31) سورة النساء وقوله سبحانه على لسان إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }(82) سورة الشعراء وبناء على ذلك فليست الآية كما يبدو من الإيحاء الأولي لمنطقها الظاهري إنها دالة على أن مقترف السيئة قد التاث بموبق الكفر الأكبر خصوصا إذا قفلنا إلى الآيات المحكمة من مثل قوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}إن الأخذ بحرفية النص دون اعتبار مداليله وخلفياته المقاصدية يفضي إلى انتهاك حرمته والقول عليه بسوى فقه. ولو تأملنا حديثا نبويا مثل: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فإننا لو اكتفينا بحرفية قوله (كُفر) لصرنا إلى نتيجة فحواها المفاهيمي أن المسلم المقاتل لأخيه المسلم قد وقع في مستنقع الكفر، مع أن المقصود ليس ذلك بل المراد الكفر الأصغر الذي لا ينأى بالفرد عن دائرة الملة، ويعزز هذا الفهم ذلك الطرح القرآني:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}(9) سورة الحجرات، فهنا أسقط عليهم وصف الإيمان رغم هذه الخصومة التي تقوم على تفاعل تنابذي، ورغم هذا الحضور الدمائي المكثف الذي يطبع علاقاتهم البينية، ومع أنهم متلبسون بفعل التقاتل وتبادل الإفناء الحياتي. وكذلك قول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما) لاحظ هنا أنه نعتهما بالإسلام مع أنهما يدلفان في إطار صراعي إلغائي تقاتلي كل منهما يروم إفناء الآخر ووضع حد نهائي لعيشه في هذه الحياة، لقد أسقط عليهما التوصيف بالإسلام رغم هذا الحراك الدمائي المرعب الذي يديرانه بالتناوب. هذا العقل التكفيري نتيجة لقُشرية مباشرته القرائية وقع في مغبة الفهم الحرفي المجرد، من غير إدراك المغزى العميق الذي ترمي إليه المادة الكلِمية. هذا العقل المهووس بتقزيم حضور النص وتحسير مناطق نفوذه يعاني من شبق تكفيري حاد، يحدوه إلى أن يصوغ القضية الفكرية خارج النص، ثم يأتي للنص باحثا عما يعضد قضيته وبالتالي يكون النص شاهداً وليس منشئاً للحكم. إنه لا يقرأ النص في وحدته الكاملة وإنما يقرؤه عضين، قراءة رغبوية يتم عبرها تحطيم النص، واستبقاء عوامل تنفيره، إنها قراءة ايديولوجية، قراءة مسبقة تقفز على المواضعات الماينبغية فهي تبنى فكرة مّا ثم تحاول استنطاق النص لينطق بما يعزز هاتيك الفكرة التي استقرت في خلدها. إنها قراءة لاتضع اعتبارات للنص بقدر ما تعزز تغييبه، وتولد البواعث على استمرارية إراقته. إن هذا الخطاب الفائض بالتبسيطات السطحية متجرد من أبجديات القراءة الثرة فهو لا يملك الأدوات اللازمة للنفاذ إلى الاعماق والإمساك بالخيوط الدقيقة، بل هو ينتهج الفجاجة القرائية ويجسد الحرفية بأعلى مستويات الاحترافية الأمر الذي أعاقه عن معاينة مؤديات المنطق النصي والوقوف على كوامن البهاء ومواطن الجمالية التى يزخربها مما أحاله إلى حبيس افكار آلت به إلى الانفصال عن روح التشريع وبت الوشيجة العلائقية بمنظومته المفاهيمية التي بلغت ذروة سنام القمة السامقة. مهندسو ثقافة التكفير والمنتمين إلى تياره الحركي لا يربطون ربطا دقيقا بين مرادات النص وإشكاليات الراهن الآني ولا يسقطونها على الواقع الموضوعي وذلك يعزى إلى انهم يتوسلون منهجية نصانية حيث تتعاطى مع النصوص كحروف وكلمات لا كمفاهيم تنبض بالحركة والحياة وتنشدّ نحو المداليل اللفظية الظاهرية النائية عن أجواء النص وسياقاته منفقة جهد الطاقة لتضفي عليهابعدا منطقيا مغلقا. إنه ليس بالوسع تجاوز مستوى الاستيعاب السطحي بحرفيته المغالية إلى مستوى الاستيعاب الاستنتاجي الذي يستنبط المضامين المودعة في طاقة النص ويتعاطى بوعي متفتح ورؤية رحبة المحتوى إلا من خلال ضرب قرائي واع متأن لا يفصل النصوص عن سياقها الخاص وما يتضمنه من قرائن إيحائية ولا عن سياقها العام انطلاقا من قاعدة أن النصوص يفسر بعضها بعضا؛ أما اعتماد الحرفية الشكلانية الجامدة فإنها لا تفضي إلا إلى تقويل المفردات والشغب على المقروء وإرغام معانيه للسير على جادة لم ترسم في خارطة النص أصلا وهذا يترتب عليه صياغة مقدمات نظرية نحن أول من يكتوي بأوار نتائجها الحتمية وندفع ثمنها على صور شتى من التضارب والتناحر وألوان الاحتراب. لقد آل التعاطي المباشر مع النص واعتماد حرفيته دون معاينة جوانبه التأويلية، وإنعام الرؤية التأملية في معانيه ومجمل تفسيراته عاملا بارزا في انحراف الخوارج؛ حيث كانوا مستدبرين للسنة مهمشين لأقوال الصحابة ولذلك استشهدوا على إبطال التحكيم الذي قام به علي ومعاوية رضي الله عنهما بقوله سبحانه: (إن الحكم إلالله) والمنحى الدلالي المنتزع من النص هنا صواب في جملته، ولكنه على التفصيل، وفي نفس ما راموا، مباين للصوابية، ولذلك رد عليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: (كلمة حق أريد بها باطل) ورد عليهم بنصوص أخرى من مثل قوله سبحانه:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا } (35)سورة النساء، فقال في مجمع من الناس: (أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله، يقول تعالى في كتابه في امرأة ورجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا}(35 سورة النساء، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل) إن الاعتماد على البعد الحرفي للمفردة دون تعميق التمعن فيما يتغياه الشارع جعلت أحد منظري ايديولوجية التكفير يقول: (إن لفظة الكفر ما جاءت في الشريعة إلا لتدل على عكس الإيمان وانتفائه، وهي تعبر عن حكم عام يشتمل على عدة أنواع منه لكل نوع منها اسم علم خاص به كالفسق والظلم والخبث) انظر (الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو) ل (محمد سرور) ص 161 مع أن أعمال العقل فيما تحتويه الطاقات النصية يوقفنا على دلالة ذهنية غاية في الجلاء مؤداها أن مادة الكفر عندما تطلق فإنه يراد بها آناً الكفر المتجاوز لإطارات الملة، وفي آن آخر يراد بها ذلك النعت الكفري الذي لا ينسحب على المتلبس به الوصف بالانعتاق من قيود الاسلام، وهذا ما يؤكده (ابن العربي) رحمه الله حيث أكد على: (أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا لكن حيث يطلق عليها الكفر لإيراد الكفر المخرج عن الملة) انظر (فتح الباري) (1-83) لقد آلت الحرفية الشكلانية بخطاب التكفير إلى تكفيركل من باشر فعلا جرى نعته أنه كفر أو ظلم أو فسق أو جاهلية ولذلك استدلوا على تكفير من اقترف معصية بقوله سبحانه: (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) وقوله: (والكافرون هم الظالمون) ويقولون حذف المكرر من الآيتين ينتج المطلوب ويصبح من لم يتب كافرا انظر (الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو) ص161 وهذا القالب الاستدلالي لاشك أنه مفتقر لمبلورات صوابيته، إذ إن الظلم ليس كله كفرا بل هو على مستويات متنوعة كما يجلي ذلك التتبع المسحي الاستقصائي لنصوص الوحيين. لقد ظل الطرح التكفيري كقيمة تدميرية فقيرا تأويليا وبحاجة ملحة إلى إصلاحات نوعية لتصعيده موضوعيا، ومن ثم تحرير الاسلام من قبضة الاسلاموي وذلك لا يتأتى إلا من خلال تحريره من جملة من الرؤى الذهنية التي شكلته ومازالت تعيد تشكيله باستمرار وتجريده مما أثقل به من مفردات باذخة في تكفيريتها وعبارات انقلابية كشفت جانبا مصادما من تمظهرات الأخلاقوية الزائفة وهذا بدوره مرهون بترشيد آلية قراءته وهدايته إلى السبيل الأقوم لوعي فحوى الكتاب والسنة اللذين يحويان بين دفتيهما الحقيقة المطلقة. Abdalla_2015@hotmail. com