الآن ستقر (لايكا) عيناً، وستنام في هدوء داخل مقبرتها التي تبعثرت وأضحت رماداً فضائياً تحمله الشهب والنيازك! و(لايكا)، لمن لا يعرفون، هي كلبة روسية، جاءت إلى الدنيا في النصف الثاني من الخمسينيات الميلادية للقرن العشرين، حين كان التنافس على أشده بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي.. .. وجدها الفضوليون في البرنامج الفضائي السوفييتي مشردة بشوارع موسكو، فأخذوها دون غيرها من آلاف الكلاب المشردة هناك، واعتنوا بها نظافة وغذاء وطبابة بيطرية، وهيؤوها بجسارة لتكون أول كائن حي يرود الفضاء في تاريخ الكون! طارت (لايكا) إلى الفضاء في نوفمبر 1957م، أي قبل إحدى وخمسين سنة، وذهبت في رحلة اللا عودة حسب البرنامج الفضائي الذي أعد لها، لكنها كانت محل رقابة علماء السوفييت الفضائيين، حيث كانوا قد ملؤوا جسدها بمجسات النبض والحرارة والتنفس؛ ليعرفوا ما يفعله الفضاء بالكائن الحي. بعد الرحلة الشهيرة ل(لايكا) توالت جولات السباق المحموم بين القطبين نحو الفضاء، فطار الروسي يوري جاجارين في رحلته التاريخية للدوران حول الأرض، ثم نزل آرمسترونغ الأمريكي على سطح القمر والناس بين مصدق ومكذب، ودخلت البشرية عصر الأقمار الصناعية بكل تخصصاتها وأجندتها المعلنة والخفية، وبتنا في عالم يستطيع أن ينقل على الهواء مباشرة ما يجري في أقصى الدنيا إلى أدناها صوتاً وصورة. حوارات ساخنة، بل ومشاحنات وصراعات رهيبة عاشها الروس والأمريكان لإقناع شعوبهم بجدوى ما يفعلون؛ فقد سعوا لتأكيد أن الفضاء هو سلاح المستقبل لحسم صراعات القوة المحتملة، واستشرفوا مبكراً المعرفة بأن الفضاء سيكون بوابة الهيمنة الإعلامية والاقتصادية والحضارية على العالم بعد ترنح الهيمنة بشكلها التقليدي. ما لم يقله الروس والأمريكان لشعوبهم وقتها أن العالم سيضيق يوماً بما ينوء به من بشر، وأن الموارد المائية ستكون سبباً رئيساً في حروب المستقبل، وأن المساحات المتاحة في كوكبنا تتآكل بشكل مخيف في مقابل انفجار سكاني يهدد الأخضر واليابس! لم يقل أحد فيهم ذلك، رغم أنهم كانوا يعلمون؛ فقد أدركوا ألا أحد سيصدقهم، فالأرض لم تضق في تاريخها بالبشر، والمياه التي تغمر أربعة أخماس كوكبنا لم تكن توحي أبداً بندرة مائية محتملة، وخيرات الأرض الزراعية تفيض على الناس ولا تترك فيهم جائعاً أو محتاجاً! من هنا نستطيع (فَهم) الفرحة التي غمرت الغرب الآن، والاهتمام الطاغي الذي أولته أجهزة الإعلام في العالم المتقدم، بعد التقارير الفضائية الآتية من مركبة الاستطلاع الأمريكية الموجودة في المريخ، التي أكدت بشكل قاطع أن المياه موجودة في الكوكب الأحمر، وأن مقومات الحياة هناك باتت في حكم المؤكد، وأن موارد المياه التي تتناقص في كوكبنا تملك احتياطياً ضخماً في مستودعات الكواكب السابحة في فضاءاتنا. صحيح أن التقارير التي كانت المركبة الأمريكية MGS قد بعثتها من المريخ عام 1997 لم تكن مشجعة، بل أشارت بثقة إلى أن المريخ مجدب وغير صالح لأي نوع من الحياة، وأن الأدلة معدومة على وجود مياه هناك، لكن تلك المعلومات لم تفت من عضد العلماء الأمريكان الشغوفين بالمعرفة، والمدركين لجسامة ما يريدون بلوغه، فتواصلت أبحاثهم الدؤوبة، واستمرت مساعيهم متجاوزة القشرة الخارجية لسطح المريخ، لتجيء النتائج المذهلة أخيراً، ولتؤكد الصور الجوفية التي بعثتها المركبة (مارس أوربيتر) أن جبالاً من الجليد المائي مخزونة في أعماق المريخ. إن وجود الماء في ذلك الكوكب يعني أن الحياة ممكنة هناك، هذا تحليل بدهي ومبدئي، ويمكن أن يكون مبرراً مقبولاً لحالة الفرح الغربي الغامر بالاكتشاف. لكن التحليل الأكثر دقة هو أن وجود الماء يعني توافر عنصريه الأكسجين، والهيدروجين، ووجود الهيدروجين يعني توافر مقومات الطاقة للقوة العسكرية والرخاء الاقتصادي، وأن توافر كل هذه العناصر يعني توافر مقومات الحياة المرفهة للناس، وتوافر عناصر الطمأنينة في عالم عرف علماؤه أن ثرواته تنضب، وأن سكانه يستنزفون إمكاناته بشراهة وشراسة، في حين كنا مغمورين بمشاكلنا الحياتية اليومية، ولم نترك بعضنا ليفكروا لنا بشكل استراتيجي لمستقبلنا. إنها مشكلة المشاكل للعرب والمسلمين، فقد حرصوا أن يكونوا مستهلكين لا منتجين، وحرصوا أن يتركوا الآخرين يفكرون، ويبقون هم في مكان المتفرج المستمتع بالعرض! التفكير الاستراتيجي لمائة عام هو من مهام الأدمغة الغربية، أما نحن فيكفينا أن نفكر في يومنا، وأن نخطط، في أحسن الأحوال، لسنوات قليلة قادمة، ولذلك كانت أحوالنا وقضايانا ومشكلاتنا رهناً على الدوام بالمفاتيح السحرية لدى الغير! نعم، ستقر (لايكا) عيناً حتى وهي رماد تتقاذفه الشهب، فقد قضت بعد ساعات من وصولها المدار الفضائي الأرضي، كما أن مركبتها الفضائية انفجرت فيما بعد كنهاية حتمية لرحلة لم تبرمج للعودة، لكن الكلبة المشردة حققت الريادة، ووضعت البشر على أعتاب عالم مدهش جديد، خطط له الغير منذ أكثر من نصف قرن، وأصبحوا الآن يقطفون ثماره ناضجة شهية. بوح القصيد الأبيات من قصيدة للشاعر محمد سعد دياب: سيان عندي أن تبوح صبابة.. أو لا تبوح هي رنة المأساة تسحق أحرفي نبضاً.. وروح قد أجدب العمر الوريق وما بقين سوى جروح يبس القصيد نجيمة تهفو.. ونسرينا يفوح كم كنت شوقاً وارفاً.. وحشاشة لا تستريح (*) الخرطوم