نسمع عن الصراعات في العمل, والمشاكل المصاحبة لها, لدرجة أن أصبح أداء العمل هماً يكابده بعض الموظفين آناء الليل ويقاسيه أطراف النهار! بيد أني سأحدثكم عن المتعة في العمل وعوامل الجذب التي حدثت في مدرسة ألغيت نهائياً فأصبحت أثراً بعد عين! كانت (المدرسة 215) الابتدائية بالرياض تضم مجموعة من المعلمات والإداريات جمعتهن علاقة أخوية صادقة، فهن يتبادلن المحبة ويتسابقن بالتضحية ويتنافسن بالعطاء، مع انتفاء تام للغيرة وغياب كامل للحسد وشروق ساطع لشمس التعاون. وقد يكون من المألوف أن تجتمع زميلات ليشكلن صداقة قوية. إنما تجتمع ما يقارب خمسين سيدة في مكان واحد يؤدين عملاً متكاملاً فيظهر التفاني في أعمالهن وتدب المحبة في أوصالهن، يتواصين بالحق والعدل، ويذكِّرن بعضهن بالصدقة وتطبيق مبدأ التكافل الاجتماعي بأبهى صوره، فهذا عجيب! والأعجب أن تتكفل إحدى المعلمات بتوصيل عدد من زميلاتها لمنازلهن يومياً دون سخط من تأخير أو شعور بتحمل تبعات مادية أو معنوية! وتدهش إذا علمت أن بعض الموظفات يتناوبن على حضانة طفلة رضيعة لإحدى زميلاتهن لعدم توفر عاملة منزلية. ولا تحار موظفة أبداً حين يكون لديها موعد طبي أو ظرف أسري، فلديها ما يكفي من جنود على درجة كافية من الجاهزية لكي يقوموا بإنجاز عملها في المدرسة، وقد يمتد ليشمل منزلها! وتدهش أكثر حين تعلم أن الغياب نادر أو معدوم؛ فكان العمل يسير بانسيابية مبهرة؛ لذا فالمدرسة تنال شهادات شكر سنوية! وكانت مديرتهم - كبيرهم الذي علمهم الحب - تتفانى لراحة زميلاتها بما لا يتعارض مع النظام؛ فكن يكافئنها بالطاعة والحب والإخلاص. وفي يوم صيفي حار كحرارة النكبة حصلت المفاجأة، فقد أفادت التقارير الهندسية أن المبنى آيل للسقوط، ولا بدَّ من توزيع الطالبات على مدارس أخرى وتفريق المعلمات والإداريات، حتى شمل التوزيع الحارس أبا علي وزوجته المستخدمة! رفضت المجموعة قرار التوزيع، خصوصاً أنه تم سابقاً تجهيز مبنى جديد لهذه المدرسة ونصبت عليه لوحة باسمها! فاتجهت الموظفات لإدارة التعليم مطالباتٍ بنقلهن إلى ذلك المبنى، ولكن لم يجدن الإنصاف وقوبلن بالرفض بل عُجل في سرعة تنفيذ القرار! فاستسلمن حين علمن أن المبنى الجديد سيخصص لمدرسة أخرى؛ فكان لا بدَّ من الفراق، رغم مرارته. وباشرن في مدارسهن الجديدة يحملن نفوساً منكسرة وقلوباً متعبة. وحين يعاودهن الحنين يستندن إلى حائط الإحباط يشبعنه بكاءً ولوعةً! وإن كن قد افترقن بالمكان فما زلن يتواصلن خارج أسواره، بيد أنهن افتقدن الدافعية لإنجاز العمل وجاذبية الحضور اليومي؛ فبعضهن آثرت التقاعد وبعضهن تنتظر، رغم محاولتهن زرع الحب وسقيه في مدارسهن الجديدة. إن إشاعة روح الحب والألفة والتضحية هي أروع ما يمكن أن تضمه أروقة العمل. والاستقرار والإحساس بالانتماء للمكان هما سر الإنجاز حيث تنعكس تلك المشاعر على النفوس وتحقق الرضا الوظيفي الذي تسعى لإقراره الإدارات الحديثة الناجحة. تُرى كم هناك من مكان عمل يأسرك بالحضور ويجعلك وفياً لوظيفتك، مشتاقاً لزملائك، بشوشاً لمراجعيك، تؤدي العمل بنهم وشراهة واستمتاع؛ لأنه بالفعل... يقرمش؟! [email protected] ص. ب 260564 الرياض 11342