هكذا امتدت سنوات العمر، وهكذا وجدت نفسي أعيش عيد الفطر في الخرطوم. نعم العواصم هي العواصم، زحام وعمارات وأسفلت وأسواق. والخرطوم، كالرياض، ابنة المدنية الحديثة، صحيح أنّ العاصمة السودانية ما زالت بكراً ولم تعط كل ما عندها من فتنة وجمال، لكن ملامحها العامة... ....تشير إلى اكتنازها من السِّحر ما سيجعلها قِبلة للخاطبين ومطمحاً للعاشقين. هكذا إذن أدركت عيد الفطر في عاصمة النيلين، وهي مناسبة كبيرة في محطات عمري، فقد انقضى أكثر من ربع قرن لم أشهد فيه أبداً عيد الخرطوم. وبتُّ لسنوات طويلة اجترّ ذكريات ضبابية عن العيد وسط أهلي السودانيين، لكن الذكريات لم تكن تغني أبداً عن واقع ظللت أحسّ بالغياب عنه. أعيادي كلها، وطوال ربع القرن الماضي، قضيتها في الرياض، وتحديداً قضيتها بين أروقة (الجزيرة)، كانت الدنيا، دنياي، مختزلة بالكامل في هذا العشق الصحفي المجنون، لم أكن أتصوّر أنّ العيد يمكن أن يكون له طعم بعيداً عن رائحة الأحبار في المطابع، ولم أكن أتخيّل أن صوتاً يمكن أن يطربني غير هدير المطبعة وهي تعطي الحياة لمولود بعد مخاض يوم كامل من الشقاء الجميل! ركبت طائرة الخطوط الجوية السعودية مغادراً الرياض قبل سبعة أشهر. كنت داخل الطائرة أكفكف دمعاً من خلائقه الكبر، فلم يهن عليّ أبداً مفارقة أناس سكبت عمري الزاهر بينهم، غالبت الدموع والأحزان، وسريت عن نفسي بأنني عائد للوطن الأم، وأنني سأتعطّر بأنفاس والدتي التي تحسب الساعات والأيام والسنوات انتظاراً لعودتي، وأنّ جهداً آخر، وعملاً آخر، وأموراً أخرى تنتظرني لحفر مكان لي في خارطة السودان. وصلت مطار الخرطوم، ورميت نفسي في أحضان أشقائي المنتظرين لاطلالتي في صالة الوصول، ما أجمل ذاك الدفء الذي يعيشه الغائب حين أوابه! تولّى أشقائي جرجرة الحقائب المثقلة بالهدايا والأغراض، في حين تفرّغت لممارسة الدهشة بالتطلُّع لما حولي. سعوديون وسودانيون وأعراب من أهل الشام ومصر والكويت، وعمال من البنغال وإندونيسيا، كلهم شكّلوا حضوراً في الصالة التي اكتظت بالقادمين من خلال أكثر من رحلة دولية. أحسست لحظتها بملمح مستجد جعل العاصمة السودانية أقرب للرياض. وشعرت أنّ النفط السوداني، على تواضع إنتاجه حتى الآن، قد بدأ يسري عافية في عروق الاقتصاد. وفي البيت كانت هناك قصة أخرى، دفنت رأسي في صدر أمي، وملأت رئتي من عبيرها الذي يهبني الأمان والحب والاطمئنان، هناك لم يكن لدمعي أن يمارس الكبر، ففي حضرة الأم يغيب الشيب والنضوج، فلا يبقى إلاّ الطفل القابع في الصدر، ليمارس شوقه ودلاله على أعظم مخلوق في حياة كل ابن. من اليوم التالي انتهت الاحتفائية بشكلها العاطفي، وبدأت رحلة (إعادة التوطين). فانغمست في عمل مضن يتعلّق بمشروع العودة، وبدأت أختبر السودان الذي انقطعت عن معايشته الحقيقية سنوات طويلة طويلة! سبعة أشهر من العمل المستمر جعلتني أستعيد بعضاً من توازني، فالبُعد عن الأوطان يتطلّب تأهيلاً جديداً حين العودة إليها مرة أخرى. دخلت في دوامة الحياة اليومية، وهي دوامة تستغرق صاحبها ولا تترك له وقتاً لالتقاط الأنفاس. سبعة أشهر من الركض الحثيث، فإذا بعيد الفطر يطرق الأبواب، وإذا بالمناسبة تلوح لأول مرة في سمائي منذ لحظة خروجي من السودان للرياض! فرحة غامرة ملأت كياني، فالعيد الآن له طعم آخر، ووالدتي وأهلي وأقربائي يكسون حياتي دفئاً وحيوية، كل ساعة لها طعم جديد، وكل لقاء وعناق وتحية لها مذاق خاص. وفي خضم الزحمة والفرحة، وبين لحظات السعادة الغامرة بالمحيطين الذين افتقدتهم أعيادي سنوات طويلة، يتسرب إحساس في الفؤاد مخيماً بحزنه! إنه عيدي في الخرطوم، لكن أين عيدي في الرياض؟! خمسة وعشرون عاماً وكل أعيادي في الرياض. خمسة وعشرون عاماً وكل ساعات فرحي تعطِّرها أحبار المطابع في (الجزيرة)، خمسة وعشرون عاماً وكل المحيطين بي في سرّائي وضرّائي هم أهلي في (الجزيرة). خمسة وعشرون عاماً ولا فرح لي إلاّ وسط زملائي بين هدير مطابع (الجزيرة)! من قال إنّ فؤاد الفتى لا يعشق إلاّ واحدة؟! فرحي بالخرطوم لا يدانيه فرح، فهي الوطن بدفئه وبهائه وأمانه. لكن الرياض هي حياتي، هي شبابي، هي عمري الزاهر وأحلامي، هي مسقط رأس قرة عيني (دعاء) و(محمد)، وهي البيت الذي ضمني خمساً وعشرين سنة بكل الحب والكرم والترحاب. أجيبوني، من قال إنّ فؤاد الفتى لا يعشق إلاّ واحدة؟! فؤادي يملك تجربته الخاصة، ففي القلب تعيش الرياض العاصمة، و(الجزيرة) الصحيفة، جنباً إلى جنب مع الخرطوم العاصمة، و(المجد) الصحيفة. قلبي يملك القدرة على الحب المزدوج، فلا أعرف مداراة الحب أو إخفاءه عن معشوقة في غياب الأخرى! إنّه عيد صويحبكم بعد خمسة وعشرين سنة من الغياب عن الخرطوم. يا له من عيد! يا له من عيد!