في اليوم الثاني لوجودي بطنجة استكملت جولتي في أحياء المدينة مشياً على الأقدام، فأيقنت من اجتماع العناصر الحضارية الأربعة في هذه المدينة وهي العراقة والنظافة والجمال والبساطة، والحقيقة أن هذه العناصر الأربعة كانت وراء انجذاب مجموعات من أشهر الفنانين العالميين ورجال الفكر والأدب لها، حيث اتخذوا منها مكاناً موحياً لهم بإبداعاتهم، ووقفت مصادفة أثناء تجوالي في شوارعها على ضريح الرحالة الشهير ابن بطوطة المولود بطنجة سنة 1304ه الذي كان خير رسول إعلامي لمدينته طنجة أثناء رحلاته الثلاث التي طاف فيها أرجاء المعمورة في 29 عاماً ثم طفت بالسيارة - قبل الغروب - شواطئها جميعاً من أقصاها إلى أقصاها، وبعبور طريق طويل مزروع بالغابات الخضراء عن يمين وشمال على بعد عشرة كيلو مترات شرق طنجة، وصلت إلى رأس ملابطا حيث استطعت رؤية مضيق جبل طارق، وحيث كان الجو صحواً فرأيت بالعين المجردة البر الإسباني وسواحل الأندلس السليبة(!!) ومن إطلالة هذا المكان المرتفع رأيت مياه البحر الأبيض المتوسط تعانق أمواج المحيط الأطلسي وترتد ثانية منفصلة فتذكرت ما رأيته في موقع مماثل على شاطئ رأس البر بمصر، حيث يلتقي النيل بمياه البحر الأبيض المتوسط فلا يختلطان، فوجدت نفسي أتلو قول خالق السماوات والأرض: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}(الرحمن 19-23)، ثم كان لابد أن أزور مغارة هرقل الشهيرة التي توجد على مقربة من هذا المكان، وما كنت متشجعاً لها لولا قربها، فقد تحول مكان المغارة إلى منطقة تسوق سياحي تنتهي إلى فم المغارة فنزلت إليها من درج واسع يؤدي إلى كهوف كلسية تتكسر عليها أمواج البحر عند كل مدَّ، يقال إنها كانت مسكناً لهرقل في عصور ما قبل التاريخ، وهناك تسمع كلاماً كثيراً ضاعت منه الحقيقة في زحام الأسطورة والخرافة والدجل، وبعد مغادرة المغارة أيقنت أنني كنت محقاً في عدم الرغبة بزيارتها، فهي أكبر من سمعتها، وليست - في حقيقة الأمر - أكثر من موقع سياحي تلتقط فيه الصور ويسترزق فيه الباعة والمرشدون والمصورون! وفي اليوم الثالث والأخير لي في طنجة خرجت مبكراً إلى المكان الذي اعتدت تناول الإفطار فيه على الشاطئ حيث التقيت بطالبة دراسات عليا مغربية حرصت على الاستئناس برأيي في موضوع بحثها الذي يقع في دائرة اهتماماتي وكتاباتي، ولفت نظري رجل أنيق يلبس بدلة رسمية - يجلس إلى جوارنا - وأمامه كل الصحف الصادرة في ذلك اليوم، ومن هيئته وسمته الوقور وطريقة قراءته وتراكم كل هذه الصحف أمامه شعرت أنه رجل مهم ومثقف، وشخصية الإنسان الذي يقرأ في الأماكن العامة تفتنني منذ صغري، فنظرت إليه وبادرني النظر حين شعر أنني غريب، فملت عنه أسأله عن طنجة، ولم نلبث أن اندمجنا في حديث ثقافي حضاري ذي شجون يخص هموم أمتنا، وعرفته بنفسي فأسعده أنني صاحب قلم قادم من المشرق وكأنه يرى لأول مرة مشرقياً يتحدث عن الثقافة والتاريخ والسياسة، فعذرته لأن كثيراً من الذين يفدون إلى المغرب العربي سائحين لا يرسمون صورة حقيقية لنا من خلال سلوكهم واهتماماتهم!! ورفض أن يعرفني بنفسه عندما سألته مما زادني شوقاً وفضولاً لمعرفة هويته ثم أصر بكرم على استضافتي وطلب لي كل أنواع الفطور الشعبي المغربي مما لا أعرفه، فلما قلت له هذا كثير، قال لي تستطيع أن تأكل ما يعجبك وتترك ما لا يعجبك. فقلت له: المشكلة ليست هنا، المشكلة أن كل شيء يعجب في بلادكم، ولكني لا أستطيع تناول كل ما يعجبني وأنت لم تترك لي خياراً بكرمك. فقال: على الأقل تتعرف على أنواع وجبات الفطور المغربي. وأسفت إنني تعرفت عليه في يومي الأخير بطنجة، وقبل مغادرته أعطاني بطاقته، فعرفت أنه من أهم المحامين الوطنيين المغاربة وهو الأستاذ محمد بوهران، وظللت على تواصل معه بالهاتف حتى غادرت المغرب على أمل العودة إلى طنجة مرة أخرى. وودعته وأنا أدندن بالأبيات الشهيرة التي كنا ننشدها في المدارس في الصغر: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصر فتطوان فما كان من الممكن أن أذهب إلى طنجة ولا أذهب إلى تطوان من أجل هذين البيتين، ومن وصية أوصاني بها الصديق الشاعر د. حيدر الغدير الخبير بزياراته المتعددة للمغرب العربي. وكان السائق الذي سيقلني إلى تطوان في انتظاري، فركبت معه وانطلقنا ونسيم البر والبحر يداعب وجوهنا حتى خفت أن يغلب السائق النعاس فشاغلته بالكلام. ولكن الطريق إلى تطوان قصة أخرى نرويها في الحلقة الأخيرة من الطريق إلى طنجة الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]