أعترف أنني قرأت كتاب ابن بطوطة الغريب (تحفة النظار في عجائب الأسفار وغرائب الأمصار) فلم أفهمه جيدا. ومن عرّفني بالرجل تماماً كانوا الألمان، ومن خلال الخرائط. نصف قرن من الزمن وأزيد وهو يسافر. ليس ثمة رحالة مثل هذا الرجل في الأسفار والترحال. كذَّبت المصادر الألمانية (ماركو بولو) وقالت لم يصل إلى الصين، ومن وصلها كان ابن بطوطة. كنت أفكر في زيارة ضريح هذا الرجل ومدينته حتى جاءت الصدفة بدعوة من الجامعة هناك لإلقاء ثلاث محاضرات في قوانين البناء المعرفي والعلم والإيمان. رافقني المحامي اللامع (رضوان الطائر) وهو يطير بنا من مكان لآخر وهو يلوح بيده مع ضحكة عذبة وكلمات ألمانية يجيدها.. انظر هنا تأمل هناك. إنهم شعب في غاية التهذيب والخدمة. وهناك زرنا برفقته والأخ النشيط أنس المدينة القديمة، ومررنا في الأزقة كما هو الحال في فاسوتطوان. في تطوان الأزقة القديمة أرحب. وصلنا أخيرا إلى ضريح متواضع؛ حيث مكتوب زنقة (طريق زقاق) ابن بطوطة. ليست ثمة زخارف وزينة، قبر متواضع لرجل مدهش. قبل المدينة رأينا عنوان المطار وعليه اسم ابن بطوطة. في المدينة زرنا الساحل ورأينا مغارة هرقل، عندها أكلنا الطاجين (طعام على الفخار لا أطيب منه). أخذونا أيضا إلى ساحل فيه 98 قبراً فينيقياً محفورة في الصخر تطل على شاطئ تضرب أمواجه. في مغارة هرقل شيء هائل؛ حيث نعبر مسافة جيدة فيها حتى يأتينا شق ينفذ إلى البحر وهناك تضرب الأمواج لا تقف. مدينة طنجة تعتبر المدينة الثانية اقتصادياً بعد الدار البيضاء، فيها من هب ودب ممن يبحث عن الرزق، وفيها سياحة وأجانب كثر، ومنها أطلق البعض عليها (ربما حسداً وضيق عين) جنة الصعاليك، ولكنها عظيمة بكل المقاييس للصعاليك والأمراء. مدينة تطوان أهلها أكثر تماسكاً وتمازجاً. لقد كتبت مقالة موسعة عن رحلة ابن بطوطة في دفعاتها الثلاث، والمرء يتعجب من قوة الرجل واحتماله، ولكنني أذكر أن زوجاً وزوجة حُبِّب لهما السفر، فلما ذاقوا الطعمة استمروا في السفر ولم يقفوا. حياتنا كلها نوع من السفر فنحن نأتي إلى عالم غير آمن بحال، ضيوفاً على الأبدية، ندخل من ثقب ونودع إلى حفرة. لا نعرف طبيعة العدم الذي جئنا منه، كما لا نعرف العدم المقدمون عليه بعد حين. بين طنجةوتطوان مسيرة ساعة، تمر فيها عبر مناظر خرافية من الجمال، وفي الطريق عند طنجة يلتقي البحران (المتوسط والأطلنطي) بينهما برزخ لا يبغيان. وقفنا في منظر بانورامي، تقدم لنا شاب وسيم مهذب يشرح، هكذا هم المغاربة إنهم قوم يقظون حاضرون. مررت على ميناء طنجة على البحر المتوسط والفنيدق والمضيق ومارتيل إلى تطوان، ومن بعيد تراءى لي جبل طارق، قلت إنه مغرٍ لمغامر مجاهد من نوعه. يمكن الوصول إليه سباحة فلماذا لا نعبر. قرأت قصته فحزنت لنهايته، وقلت هذه هي قصة العسكر والسلاطين والحملات العسكرية وحسد الأقران. كان مصير كولومبوس وطارق متشابهاً. أخيرا رجعت من جديد إلى تطوان الروعة. هل تعلمون ما هو أجمل شيء في المغرب؟ إنه ليس الشواطئ الممتدة؟ ولا الجبال الراسيات؟ ولا الرمال المسترخية؟ ولا الخضرة في كل مكان؟ ولا الحوت في كل طاجين؟ أجمل ما في المغرب هو شعب المغرب الذي ينبت حبهم في قلبي مع كل يوم كما تنبت من الكف الأصابع.