ما أن ترجلت من القطار ووطئت قدماي أرض طنجة حتى عانقتني نسمات البحر الباردة فأنعشتني، وكان الظلام قد أرخى سدوله، فنظرت أمامي ورأيت بيوت طنجة التي تتدرج من ربوةٍ عالية نزولاً إلى الشاطئ تلمع كنجوم رصعت على بساط أسود. وفي الطريق من محطة القطار إلى الفندق المواجه للبحر - الذي دلني عليه الزوجان المغربيان - لفت نظري هدوء المدينة ونظافتها، والنظافة ظاهرة عامة أشهد بها لمدن المغرب التي زرتها، أما هذا الهدوء الوديع فهو ما يميز طنجة عن غيرها. وما أن وضعت متاعي في غرفة الفندق حتى هرعت إلى الشرفة، فنظرت إلى طول الشاطئ عن يمين وشمال فرأيته يمتد بما يقرب من نصف دائرة وكأنه يحاصر البحر حتى يختفي في الظلام، والناس يملأون المكان ذهاباً وإياباً كما هو الحال في كل شواطئ العالم. وتمنيت أن أخرج وألتحق بالغادين والغاديات والرائحين والرائحات، ولكني شعرت بتعب الساعات الطويلة في القطار، وما يريح من التعب إلا الصلاة فتوضأت وتوجهت نحو القبلة وصليت المغرب والعشاء جمعاً وقصراً وأحسست براحةٍ مضيئةٍ في صدري فخلدت إلى نوم عميق لم أصح منه إلا على وقت الفجر. والصباح رأيت إشراقة شمس أكتوبر الرائعة على شاطئ طنجة في جمعها بين الدفء والبرودة بحكم موقعها على المنطقة المعتدلة الدافئة بين البحر والمحيط، إذ تبلغ درجة حرارتها 11.7م في الشتاء في شهر يناير، وتصل في الصيف إلى 22.2م في شهر يوليو، وتسقط عليها أمطار تبلغ 36 بوصة في السنة بسبب الرياح الغربية القادمة من المحيط الأطلسي وخليج المكسيك. وألقيت نظرة عجلى من الشرفة على الأفق البعيد الذي يتوارى فيه البر الإسباني وفي ذاكرتي تاريخ عظيم أسسه المسلمون هناك انطلاقاً من هذا المكان. وتساءلت وأنا أرتدي ملابسي بعد أن شعرت بجوع شديد: ترى هل يعلم أكثر الناس في طنجة شيئاً عن صُنَّاع المجد والحضارة الذين عبروا البحر من هنا إلى الأندلس فأضاءوا القارة الأوروبية بل والعالم كله بالإسلام لمدة ثمانية قرون؟! وغادرت الفندق ووجدت نفسي أمام مقهى ومطعم بديع دوره الأرضي مفتوح على البحر ودوره الثاني مغلق بجدران زجاجية تطل على الكورنيش فاخترت الدور الأرضي ولم أجعل بيني وبين البحر حاجزاً، وطلبت من الساعي - الذي عرف أني غريب - أن يقدم لي فطوراً مغربياً من معجنات طنجة فأكلت بشهية، ومن عادتي أن أثقل في الفطور وأخفف في الغداء، بل غالباً ألغي وجبة الغداء في حالة السفر لصالح وجبة العشاء. كان المنظر خلاباً من شرفة المطعم أتاح لي أن أرى ملامح مدينة طريفة أقرب مدن البر الإسباني إلى طنجة، وسرحت بذاكرتي التاريخية، فقد قدمت هذه المدينة أعظم الخدمات إلى الإسلام والمسلمين منذ وصول الفتح الإسلامي إلى الشمال الإفريقي على يد عقبة بن نافع سنة 682م، وتوطيد دعائمه على يد الفاتح العظيم موسى بن نصير الذي عهد بحكم طنجة للقائد الرباني الشجاع طارق بن زياد سنة 707م، فلا يوجد مسلم اليوم لم يسمع بطارق بن زياد الذي كان أول من دخل براية الإسلام إلى أوروبا من هذا المكان سنة 711م؛ ولهذا السبب نفسه أصبح طارق بن زياد العدو الأول للصليبيين المتعصبين في أوروبا اليوم. وغادرت مكاني لأجد على مقربة مني سيارة أجرة تقف فطلبت من السائق أن يأخذني إلى وسط المدينة القديمة، وأثناء الحديث معه وجدت فيه لطفاً وبشاشة فطلبت منه أن يصاحبني طوال اليوم، فاتجه بي يساراً إلى طنجة القديمة التي تتكدس على زاوية تطل تجاه مضيق جبل طارق، وقبل الوصول إلى البحر مررت بالبيوت الصغيرة البيضاء التي رصفت شوارعها جميعاً، ورأيت أن معمارها لا يختلف عن أي مدينة ساحلية في المشرق رغم كثرة أجناس المحتلين الأوروبيين الذين عاشوا فيها، وتجولت في ضواحي أحياء طنجة القديمة الخمسة: القصبة، دار البارود، جنان قبطان، واد أهردان، وبني إيدر. وقد حافظت طنجة على أجزاء من سورها القديم وعدة قلاع وأبراج. ومن أهم ما زرته في هذه المنطقة قصر القصبة الذي يحتوي على متحف شامل يروي تاريخ طنجة عبر العصور، وتحتل بنايته موقعاً استراتيجياً في الجهة الشرقية من القصبة الذي كان مقراً للحكم عبر عدة عصور، وفي سنة 1938م تحول هذا القصر إلى متحف اثنوغرافي وأركيولوجي لطنجة ومنطقتها. ومن خلال غرف القصر المتعددة والمرئيات العينية والقطع الأثرية والشروحات وفيلم وثائقي وقفت على مجمل تاريخ طنجة منذ عصور ما قبل التاريخ ومروراً بالفتح الإسلامي حيث بقيت طنجة عاصمة لكل شمال المغرب العربي حتى وادي سبو إلى أن أسس الأدارسة مدينة فاس. وفي القرن العاشر دخلت طنجة تحت الحكم الأموي بالأندلس. وفي سنة 950م قام الخليفة عبدالرحمن الثالث ببناء سور قصبتها - الذي شاهدته - وصيانة أسوارها وتحصين دفاعاتها. وعندما ضعفت شوكة الإسلام والمسلمين في الأندلس في عهد ملوك الطوائف كان الطريق إلى طنجة طريق تجديد الفتح في سبيل الله حيث عبرت منها جيوش مؤسس دولة المرابطين الكبرى القائد الرباني يوسف بن تاشفين ثلاث مرات حتى انتصر سنة 1086م انتصاره الساحق على الصليبيين في معركة الزلاقة الشهيرة التي أجلت سقوط الأندلس أربعمائة عام!! ثم كان عبور زعيم دولة الموحدين يعقوب المنصور سنة 1196م. وابتداء من سنة 1274م ضم السلطان المريني أبو يوسف يعقوب طنجة إلى حكمه، وعاشت طنجة طيلة القرن الرابع عشر الميلادي مرحلة مضطربة من الثورات والأزمات التي عرفها المغرب في آخر عهد الدولة المرينية. وشهدت شواطئ طنجة وصول موجات من المهاجرين من الشاطئ المقابل بالأندلس طلباً للأمن في عصور، كما استقبلت الآلاف من الفارين بدينهم وحياتهم بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، حيث استقر بها كثير منهم وطبعوا حياتها ومعمارها بالطابع الأندلسي الجميل. وفي القرن الخامس عشر الميلادي أصبحت طنجة هدفاً لمطامع الاستعمار الغربي بعد زوال دولة الإسلام من الأندلس؛ فانقلبت الآية، واحتل البرتغاليون طنجة سنة 1471م حيث بنوا قلعة عظيمة بطنجة سنة 1564م. ومن عجائب الدهر أن هانت طنجة الغالية على البرتغاليين؛ فقدموها سنة 1662م هدية لملك إنجلترا شارل الثاني بمناسبة زواجه من ملكتهم كاترين!! وبقيت طنجة بيد الإنجليز حتى حاصرها السلطان العلوي الباسل المولى إسماعيل لمدة سنة، ست سنوات، حتى أجبر الإنجليز على مغادرتها سنة 1684م بعد أن دمروا معالمها وحصونها حسداً من عند أنفسهم. وبعد عودتها إلى حكم العلويين قام عاملها علي بن عبدالله الريفي بترميم أسوارها ومساجدها وبقية معالمها، ومنها قصر القصبة المحصن الذي كان مقراً للحاكم الإنجليزي فاتخذه له قصراً، وهو اليوم المتحف الذي وصفته منذ قليل وعشت فيه هذا التاريخ المجيد.