سألتني معلمة الرياضيات (أبلة أحلام عزب) وهي سيدة فلسطينية مفرطة الجمال والحماس والحزم بعد أن ألقيت قصيدة (سجل أنا عربي) بالإذاعة المدرسية إن كنت أعرف أين غادر محمود درويش وأين يعيش بعد أن ترك أرض فلسطينالمحتلة؟ سؤال ملتبس هل فاجأني السؤال وأفسد بقسوته الجغرافية والسياسية معاً نشوتي الشعرية البكر بتلك القصيدة المائجة بالعناد والرفض؟! لم أكن أملك من أدوات المكر ما يجلعني أفكر في الأمر على هذا النحو المريب، فقد كان عشب الطفولة لا يزال عالقاً بقدمي وكعبي لم تغص في أشواك الدرب وأغوار الواقع بما يؤهلني لمقارعة الأسئلة بالأسئلة، إلا أنني شعرت وقد نفد لعابي بأن عليَّ أمام عشرات عيون التلميذات المكحلة بالندى والفضول في طابور ذلك الصباح أن أبتلع حفنة أمواس على الريق فيما حنجرتي لم تجف بعد من اشتعالات التحدي والغضب المنبعث من صرخة قصيدة (سجل أنا عربي). لم أعرف أصلاً حينها أن الشاعر محمود درويش كان يعيش في الأرض المحتلة تحت الإقامة الجبرية، كما لم أعرف أن الشاعر كان يواجه سؤالاً مصيرياً في تحديد مكان للاستقرار وللسفر معاً. كنت مجرد بنت مولعة بالكتابة والشعر وبفكرة الجمال والعدل لا أكثر. وكان تشجيع المواهب واقتراح المناظرات أو القراءات الشعرية في إذاعة المدرسة أو حصص التعبير مجرد محاولة من معلماتنا العراقيات والفلسطينيات والسوريات وسواهن من نساء الوطن العربي لتخفيف رطوبة جدة وتهوية الفصول بمد العروبة وسحر الكلمة لفتيات صغيرات تلتمع جباههن تحت حرارة الشمس بالعرق والأمل! سؤال سفر الوطن غير أنه يبدو أنني لم أدرك في رعونة العمر تلك وربما المعلمة نفسها لم تعلم على وجه التحديد كم كان ذلك السؤال الذي بدا مجرد سؤال مدرسي عن (وجهة الشاعر محمود درويش) ملغم بالعلاقة بين سفر الوطن وسفر المنفى. كما يبدو أن لا أحد كان يستطيع أن يتنبأ في ذلك الوقت الذي كان مشحوناً بتباشير معركة الكرامة وبشعر المقاومة الفلسطينية أن سؤال التشظي بين الاحتلال وبين التحرير سيطول بعالمنا العربي بما هو أبعد من المسافة بين الخليج والمحيط وسيبقى معلقاً في أعناقنا ما بقيت قلوبنا تدق جيلاً بعد جيل. وذلك ببساطة لأن سؤال الإقامة والسفر في حالة محمود درويش كما في حالة غسان كنفاني الشخصية وحالته الروائية في (رجال تحت الشمس) لم يكن سؤالاً يتعلق بحالة مفردة. كان لا بد أن تمر سنوات وسنوات من عنفوان المقاومة الفلسطينية وتدفقها فكراً وشعراً في صدور الشباب العربي وصباياه لتلك المرحلة إلى عنف حصار تل الزعتر والاجتياح الإسرائيلي لبيروت وشتات منظمة التحرير الفلسطينية بمختلف فصائلها بين صنعاء وتونس وعواصم عربية وأوربية أخرى قبل أن يعلمني الكر والفر على معابر التحولات سواء بمجتمعي السعودي أو بالعالم العربي ككل بأن الأسئلة المكونة من مركب كمائن المكان وجبروت الزمان أسئلة غامضة بالغة التعقيد، وقد يصعب العثور على إجابة لها في دورة عمر واحدة. كما قد يصعب البحث فيها دون اشتباك يد الباحث في شرك التعالق بين العشق الفردي والشوق الجماعي والالتباس السياسي من عناصر تلك الأسئلة. سؤال مغامرة اللغة قد يكون لكل ذلك ولسواه مما لا يدرك بالرصد التاريخي والتحليل الاجتماعي أو بالحواس الستة وحدها احتاج الشاعر محمود درويش أكثر من حياة وثلاث عمليات قلب وما يربو على عشرين ديواناً ليخرج بالشعر العربي من التخبط في دم الخريطة إلى التدفق في فضاءات كونية وليخرج اللغة من عثة الاستعمال وصدأ الإهمال في الكتب أو الكلام ويدفع بها إلى أقصى مجاهل الجمال ومفاجآت التجديد دون أن يكف لحظة واحدة عن تمارين التمرد المعرفي والجمالي والميداني على منجزه الإبداعي في علاقته بسوابقه الشعرية مهما كانت أخاذة وأي كانت درجة تعلق جماهيره الشعرية بها. وإلا لما واتته الجرأة بعد أن بلغ الستين ليسأل بشجاعة طفل نزق (كيف أتعلم كتابة الشعر في هذا الهزيع من العمر؟) سؤال السر بين القضية والكونية وشهد الدهشة أن تكاثر الانكسارات على المستوى الوطني العام لم تستطع أن تفقد محمود درويش لياقة المحارب. بالضبط مثلما لم تقف فتنة مكانته كرمز لشعر المقاومة في وجه العاشق ليكون شاعراً عالمياً بكل ما تتطلب ذلك من تحديات لم يعرف عن محمود درويش أنه أقدم فيها على تقديم أي نوع من التنازلات الرائجة كاشتراطات للعالمية. سؤال الخلود إن شاعرية محمود درويش الفريدة في عصرها والعصور التي سبقتها هي ما تجعله شاعراً لا تكفيه الإقامة في أقل من سرمد الخلود. فهو وإن لم يكن يوماً خارج المكان فإنه لم يتوقف يوماً عن تمشيط البحور السبع واليابسة بجحيمها وفراديسها إن تحليقاً أو مشياً على الأقدام. وإن كان ليس لي أن أقول ليته لم يتوقف عن السفر فالموت حق وإن انتصر الشاعر عليه، فليس لي أمام هذا الفقد الفادح الذي توقف فيه الهواء عن الوطن العربي وعن الشعر وعن جميع الشرفاء والعشاق في العالم لحظة حداد إلا أن أقول ليت تلك البنت التي أنشدت شعره في إذاعة المدرسة ظلت حائرة في البحث عن إجابة سؤال المعلمة في تحديد وجهة الشاعر. ليتها لم تعثر أخيراً على الجواب. سؤال لم يمس أما ماذا أجاب محمود درويش عندما سألته أين يقيم حين لقيته مع الشاعرة أمل جراح وزوجها ياسين رفاعية عند عطفة جان دارك بالقرب من الجامعة الأمريكية ببيروت نهاية السبعينات. وإلى أي أتجاه أشار في إجابة السؤال عندما تصادفنا على رصيف المطار بالدار البيضاء ومعه الشاعر حسن النجمي وزوجته الشاعرة عائشة عند نهاية التسعينات. وبأي اللغات عبر عن وجهته في المكان لبحث السؤال نفسه بمعرض فرانكفورت للكتاب عام 2004م؟ فهذا ما سأهرب من كتابته الآن وأتركه إلى وقفة أخرى بحجة أنه لن تكفيني مساحة اليوم لأوفي الوجهات حقها من رياح الأشرعة. وإن كانت هناك حجة مفحمة أكثر للتهرب من هذه الكتابة وما زالت الفجيعة في أوجها وهي تتمثل في مأزق اللغة الذي لا بد أن الكثير منا كتاباً وشعراء يسقط فيه من كاحله إلى عظام الرقبة حين تكون الكتابة عن ذلك الشاعر الذي نفث في اللغة طوال أربعة عقود كل أنواع السحر من حرير وأشواك العقد، ومن مزامير الجان وخرير الينابيع وشجن الغجر إلى مختلف أخلاط رقى الحبر والزعفران وماء الزهر والليمون. إذاً أي كلمة يمكن أن تكتب عن محمود درويش دون أن تقتله مرة أخرى لفرط غيرة الجوري على الأرجوان وولعه الجنوني باللغة؟! أي رثاء لمحمود درويش لن يكون إلا خيانة لموجدته اللغوية ولخلوده الشعري وللحرتين (عكا وحورية) اللتين ما فتئتا تقتتلان وتلتحمان بلا هوادة على حزنه وابتسامته وعلى خجله ووسامته أيهما تأخذه وقوداً لتنور نارها. ولربما أختم المقال بينما يبقى الجرح مفتوحاً في حضرة الغياب, بما سبق وكتبته على موقع الحوار والإبداع لحظة أعتراني رعب الخبر. سؤال ليس أخيراً كانت قد وصلتني مساء السبت 9-8 الثامنة والنصف تقريباً رسالة جوال من أ. محمد المرزوقي بجريدة الرياض تقول (رحل محمود درويش). فرددت برسالة جوال كتبت فيها ما يلي: (بحبر دموعي الحرى وبالنحت في دمي المتجمد على صمامات قلبي دعني أقول لك ليس دقيقاً قولك (رحل محمود درويش). فالأقرب أن محمود درويش المبتلى بعضال الأمل المفتون برفيف الأجنحة المتمرس في شراسة الترحال قد عاش طوال حياته القصيرة مرتحلاً، وربما قرر أخيراً الاستقرار على أرضه رغم أنف الاحتلال، عله كعادة شعره يخلق بإبداعه ما يخل بالمستتب والمستبد من خلل الجمال واختلال العدل. من يدري لربما أراد بقصيدة موته الأخيرة أن يضع حداً نهائياً لاقتتال الإخوة، فيكتب بخلوده حياة جديدة لريتا ولفلسطين معاً. أما نحن عبر القارات السبع والجهات التسع من عشاق جنيات شعره وأصدقاء أطيافه المتثنية السامقة، من الولهى بكمنجات الغجر التي لن يكف عن إطلاق نوافيرها على أحلامنا فلنا أن نشاركه قهوة أمه (حورية) ولا نكتفي بالحنين إلى عصافير الجليل علنا نجترح القيافة في أثر الفراشة). [email protected]