كتب الأستاذ مشعل السديري موضوعاً شيقاً في جريدة الشرق الأوسط، عدد الاثنين 5 محرم 1429ه (14 يناير 2008م) بعنوان (الاكتشافات) عقب فيه على الخطوة التي أقدمت عليها هيئة الآثار المصرية بتضمين قانون الآثار مادة تمنع نسخ آثار طبق الأصل من القطع الأثرية المصرية على الصعيدين المحلي والعالمي وذلك -من وجهة نظر هيئة الآثار- حماية للملكية الفكرية لمصر على آثارها. ويرى الأستاذ السديري أن هذا القرار جاء متأخراً بعض الشيء، ثم نوه عن خروج الكثير من الآثار المصرية وانتشارها في جميع أنحاء العالم، وبعضها يباع في المزادات ويعرض بعضها في محلات الأنتيكات دون معرفة من يشتري تلك القطع إذا كانت أصلية أم مزيفة!! على الرغم من أن القطع يرفق معها البائعون شهادات تدل على أصالتها، ولكن المشتري يفاجأ بأن القطع مزيفة. وروى الأستاذ السديري قصة مفادها أن أحد الأشخاص -في المملكة- أحضر نحاتاً من مصر، وهيأ له كل وسائل الراحة والعمل، وزوده بأنواع الصخور وطلب منه أن ينحت تحفاً فنية مصرية تحاكي القطع الأصلية برونقها وجمالها. وبعد انتهاء النحات من عمله دعا ذلك الشخص أصدقاء له من علماء الآثار بجامعة الملك سعود على حفل غداء صحراوي خارج الرياض، وقبل وصولهم عمد إلى دفن التماثيل التي صنعها النحات بين الرمال تاركاً طرفاً من تحفة مزيفة بارزة بحيث تساعد أن يلمحها علماء الآثار عند جولتهم بمزرعة صاحب الدعوة. وقد انطلت هذه اللعبة -كما يقول السديري- على علماء الآثار وكان عددهم ثمانية، وظنوا أنهم اكتشفوا كنزاً ثميناً لدرجة أن أحدهم اقترح اقتسام التحف فيما بينهم، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك ففكروا في شراء المزرعة من صاحبها حتى يقوموا بإجراء تنقيبات في الأرض ليكتشفوا الآثار فيها. وأود في البداية تقديم الشكر للأستاذ مشعل السديري في إثارته هذا الموضوع الذي وافق هوى في نفسي، بحكم الاختصاص على الصعيد العلمي والإداري في مجال الآثار، وحرك هذا الموضوع في داخلي أشياء عشتها وعايشتها مع الآثار سنوات طويلة مع حيل المزيفين وقضايا تهريب الآثار المزيفة وغير المزيفة، ولي وقفة مع ما أثاره مشعل السديري أوجزها في الآتي: 1- إن القرار الذي أقدمت عليه مصر في منع استنساخ القطع الأثرية والتحف الفنية الأصلية -بهدف حماية الملكية الفكرية- يبدو منطقياً لأول وهلة، وله ما يبرره بسبب ثراء مصر بتراثها المادي الذي يعود في جذوره لسبعة آلاف سنة، وقد كانت أرض مصر -منذ قرون- مقصداً للحفارين والسراق وتجار العاديات، خصوصاً بعد الحملة الفرنسية على مصر، فخرجت منها آلاف القطع الأثرية النفيسة، ومن تلك الآثار المسلات المصرية التي تتزين بها أشهر الميادين العامة في عدد من العواصم في العالم ويقصدها آلاف الزوار من كل الدنيا، وكذلك التماثيل الآدمية والحيوانية والموميات والأواني النحاسية والفضية والذهبية والحلي وأدوات الزينة والتحف الإسلامية المتنوعة، وكل هذه الآثار شكلت مجاميع متحفية في قاعات رئيسة في المتاحف العالمية هذا عدا ما يحتفظ به الأفراد ودور العرض الخاصة. ونعتقد أن هناك الكثير من القطع الأثرية والتحف الفنية لم يفصح عنها بعد حتى اليوم. وعلى الرغم من خروج آلاف القطع والتحف من مصر إلى العالم بطرق مختلفة (شرعية وغير شرعية) فإنها أضافت إلى المعرفة الإنسانية معلومات لا يمكن تقديرها بثمن، وقد أنشئت بسببها أقساماً متخصصة ومراكز بحثية عن تاريخ مصر وحضارتها في كثير من الجامعات والمعاهد في أوروبا وأمريكا وبلدان أخرى عدة. وقصة اكتشاف حجر رشيد تعد حدثاً عالمياً، فقد مكث مكتشفه شامبليون ما يقارب من ثلاثين عاماً (مع علماء آخرين)، في دراسة رموزه وتفسير وقراءة ما نقش عليه من كتابات هيروغليفية وديموطيقية وإغريقية قديمة، وبذلك أصبحت الكتابة المصرية القديمة معروفة وتدرس في المعاهد والجامعات والمدارس في مصر خصوصاً وفي باقي بلاد العالم، لقد كان اكتشاف حجر رشيد وفك رموزه فاتحة عهد جديد للمزيد من الدراسات والبحوث وتمهيد الطريق للمزيد من الاكتشافات عن مكنون الحضارة المصرية القديمة، وبسبب هذا الآثار والمكتشفات التي تمت على أيدي العلماء من مختلف أنحاء العالم فقد حفرت مصر تاريخها وحضارتها في قلوب البشر. 2- أما استخراج المستنساخات عن القطع الأثرية والمنحوتات الفنية الأصلية فهو أمر قد لا تستطيع القوانين في مصر أو غيرها من الدول منعها أو الحد منها. والمختصون يعلمون أن ما يؤرق مسؤولي الآثار وخبراء المتاحف هو التزييف والتدليس، وإبدال القطع المزيفة بدلاً من القطع الأصلية، والمستفيد الأول من هذه الحيل هم المزورون الذين يبحثون عن الربح المادي غير المشروع. ولكون التزوير والسرقة مادة مثيرة فقد كتبت حولها قصصاً وروايات وأنتجت منها هوليود وغيرها من شركات ومؤسسات الإنتاج السينمائي أفلاماً تبرز أسلوب التحايل في تزييف الآثار وسرقة المتاحف والتغرير بالمختصين في علوم الآثار والفنون. 3- يمكن التوضيح أن استخراج نسخ طبق الأصل عن القطع الأثرية والفنية الأصلية أمر مشروع ويمارس في المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية، وهذا ليس في حكم التزييف ولكنه وسيلة للتوثيق والحفظ للشواهد الحضارية في حالة فقدان الأثر الأصلي بسبب عوامل الطبيعة أو الكوارث والحروب. وهناك معالم آثارية ثابتة تم نقلها من مواقعها الأصلية، ووضع مكانها مبانٍ طبق الأصل ومن أبرز الأمثلة لدينا بوابة عشتار المشهورة في بابل التي تم تفكيكها وإعادة تثبيتها في متحف بيرجامون في برلين هدية من السلطان عبدالحميد إلى الملك فيلهام الثاني، وذلك قبل انهيار الدولة العثمانية وقيام دولة العراق الحديثة. كما أن الكثير من التماثيل والمنحوتات الحجرية والرخامية التي نشاهدها في المدن التاريخية في أوروبا -تحديداً- هي إما نسخ أصلية أو طبق الأصل، وغالباً ما تعمل الدول على حفظ النفيس منها في مستودعات خاصة حفاظاً عليها من السرقة والتشويه. كما أن القطع الأثرية والتحف الفنية في مختلف بلاد العالم شكلت منتجاً اقتصادياً مهماً وساعدت في نهضة كبيرة في تطوير الحرف والصناعات وقامت عليها تجارة رابحة في تصنيع التحف والتذكارات وتسويقها بأشكال وأحجام متعددة وباستخدام مواد شبيهة تحاكي التحف الأصلية أو مشابهة لها، وكونت هذه الصناعات دخلاً قومياً في البلدان التي طورت سياحتها الثقافية، ولا تدخل هذه الأعمال في التزييف، وإن كان بعض المزورين يروجون بعض القطع المصنعة على أنها تحف أصلية وتنطلي الخدعة على من يجهل الآثار. 4- ومن تجارب شخصية عشتها في إدارة شؤون الآثار، التعامل مع الآثار المزيفة المجلوبة من الخارج والتي يحاول أصحابها تسويقها داخل المملكة، فقد كانت تحال إلينا في وكالة الآثار من قبل الجهات الرسمية ومن الوجهاء والمسؤولين بعض القطع والتحف الفنية يطلبون تحديد عمرها الزمني وتقديرها ماديا، وبعد الفحص والتدقيق نجد أنها مزيفة بالرغم من تعدد أنواع الخدع والحيل التي يلجأ إليها المروجون في المبالغة في أسلوب حفظ القطعة الأثرية أو التحفة داخل علب جذابة وفاخرة والتحرز عليها والتهويل بأهميتها وقيمتها، وبعضهم يحضرها وعليها آثار الطين والأتربة والصدأ للتأكيد على أثريتها، وبعد التدقيق في تلك المواد نكتشف أنها غير أصلية، وقد تكونت لدينا خبرة في الكشف عن التزوير في الآثار والتحف الفنية. وإزاء ذلك تعاونت معنا وزارة الداخلية والمديرية العامة للجمارك في مكافحة تهريب الآثار، ولكن مع الأسف فإن هذه الظاهرة لا تزال مستشرية في بلادنا لدى قلة من المواطنين والمقيمين، فقد أشغل البعض منهم المسؤولين بالترويج لتحف يدعون أنها أصلية استخرجت من مواقع أثرية بعينها ويجادلون بأحقيتهم بمكافئة جزلة وتعويض مادي يعود عليهم بالربح الوفير. أحدهم جاء من إحدى المناطق البعيدة عارضاً قطعة حجرية منحوتة عليها رموز ونقوش مدعياً أنها من عهد عنترة بن شداد، مؤكداً أنه تلقى عرضاً مغرياً لبيعها على أحد التجار خارج المملكة بقيمة مليون دولار لكنه ومن باب الغيرة وحب الوطن فضل تقديمها لبلده مقابل تعويضه بمبلغ مادي أكثر مما قدم له. كان سلاحه في التهويل بأهمية القطعة لساناً سليطاً وجرأة عجيبة، ويرفض منحنا الوقت لفحص القطعة خوفاً أن تسلب منه تلك التحفة (المزيفة)، لدرجة أنه لم يكن لديه مانع من البقاء مع القطعة حتى وقت نومه وراحته. وبعد فحص القطعة وجدنا أنها كتلة من حجر الصوان استخدم في تشكيلها آلة قطع الحديد (الصاروخ) ونقش على أحد أطراف القطعة بالأرقام العربية تاريخ 650م. وقد تبين لنا تدليس ذلك الرجل ليس في التزييف فحسب بل في التضليل والإدعاء الكاذب عن مصدر تلك القطعة. والأمثلة كثيرة من هذا القبيل التي روج لها المروجون طمعاً في المال، وللأسف أن بعض الناس يقعون صيداً ثميناً لمثل هذه الحيل والألاعيب. 5- أما القصة التي رواها الأستاذ مشعل السديري عن علماء الآثار في جامعة الملك سعود الذين وقعوا صيداً سهلاً في الوليمة الصحراوية التي أعدت لهم من قبل أحد الأصدقاء، فأحمد الله أني لم أكن في زمرة أولئك الثمانية، مع يقيني أن تلك القصة كانت من باب الدعابة والتسلية، إذ أنه لا يعقل أن تنطلي تلك الحيلة على أساتذة الآثار، ولا يخطر في بال أحد أن البعض منهم حاول الجري خلف السراب، بل ومن السذاجة بمكان أن تسول لهم أنفسهم اقتسام الآثار، لكني لا أستبعد أن تكون الواقعة صحيحة من حيث تسرع بعضهم في تصديق زميلهم المضياف بأصالة القطعة التي شاهدوها واتفقوا أو اختلفوا في تحديد هويتها وتاريخها. وحتى لا يعتقد الأخ مشعل السديري بأني أناقض روايته فقد تعلمت في الجامعة ذاتها من أستاذي الدكتور الخويطر، قبل سنوات، درساً عملياً عن معنى (ما آفة الأخبار إلا رواتها) لذا ينبغي توخي الدقة في المعلومة قبل زج كوكبة من أساتذة الآثار في جامعة الملك سعود على أن يكونوا على هذه السذاجة ليقعوا في شرك الحيلة التي نصبها لهم زميلهم المضياف. ومع ذلك أقول: إن بعض القطع الأثرية والتحف الفنية المزيفة قد يصعب على ذوي الفطانة معرفة أصالتها من زيفها إذ إن أنواعاً من الكتل الصخرية والمواد المعدنية يسهل تكوينها ونحتها وتشكيلها بحيث تبدو كما لو أنها من آلاف السنين، وقد حدثت قصة مشابهة لتلك التي رواها الأستاذ مشعل السديري عندما كتب أحد المختصين مقالة عن رأس تمثال يقال أنه عثر عليه في مزرعة قريبة من الرياض العاصمة وتوج المقال بصورة رأس التمثال وأكد فيه الكاتب على أثرية القطعة، وتعجل أيضاً في تحديد تاريخها، وحسب علمي أن وفداً كبيراً توجه لمعاينة المنطقة التي عثر فيها على رأس ذلك التمثال، وحصل اختلاف حول أثرية القطعة من عدمها وتبين أن القطعة غريبة على المكان الذي يعتقد أنها وجدت فيه، وانتهى الجدل بالتحفظ على القطعة ووضعت مع مجموعة الآثار المزيفة. وأقول: إنه مهما انطلت الحيلة على المختصين فإن المبتدع أو المزيف لا بد أن يخطئ أثناء تشكيله للقطعة، وبالمقارنة والقياس والتحري الدقيق يمكن الكشف عن القطع المزيفة من الأصلية. وأعتقد أن الأستاذ مشعل السديري يوافقني الرأي أن تشخيص الأثر المنقول قد يعتريه الخطأ إذا لم تكن المعلومات عنه دقيقة وتحليله مستوفي الشروط، وقد يصعب في أحيان كثيرة تحديد هوية الأثر ومعرفة أصالته من زيفه حتى مع استخدام التقنية. وخطأ التشخيص يحدث في العلوم المعرفية الأخرى ومنها الجيولوجيا والأحياء والنبات والأخطاء الطبية كثيرة وتحدث كل يوم. وخلاصة الكلام أكرر الشكر للأستاذ مشعل السديري على قفشاته الجميلة وإثارته موضوع التزييف في الآثار، وأطمئنه أن الآثار في المملكة تعيش مرحلة جديدة للانطلاق برؤية علمية وفنية وإدارية ذات مهنية عالية بحيث يضمن لها التطور مع المحافظة عليها من أي تشويه وتزييف.