هيئتها الرثة جعلت منها محطة تقف عندها الانظار وسيرها السلحفي يقتلع قدميها من الارض اقتلاعا هائمة على وجهها تعاني البؤس والجوع، كلف البعض بانفاق جزء من وقتهم لرصد تلك المسيرة. البعض طفق يحوقل والبعض الآخر كان يرشقها بنظرات اشفاق خاطفة اعتادتها دون اكتراث لها عاقدة العزم على ابتياع رغيف خبز علها تسكت به عواء الجوع الذي اخذ يشاكسها بشراسة ممتزجا باضطراب مشاعرها. طفقت الأضواء الباهرة تصطدم بعينيها مما زادها قتامة قذفت بها في دوار عظيم سقطت على اثره في غيبوبة لم تفق منها الا على عويل عربة الاسعاف فازدادت عليها وطأة الألم,, انه ليس ألم الجوع,, انه ألم رهيب يفترسها بشراهة ألم شعرت معه بنار مسعورة تضطرم في انحائها وتتغلغل في اعماقها,, فاندفع صوت مرير مكتوم من بين شفتيها كان اشبه بالعويل,, رهط من الخلق احاط بها أصواتهم تقرع مسامعها,, يا لها من مسكينة. ملامحها تزداد قتامة واللغط يتعالى ويزداد حدة والألم يزداد ضراوة وخيالات الأشياء تتراقص أمامها لتجد نفسها تغوص في هوة عميقة من ذكرياتها المؤلمة,, كان صباحها صباح الفرح ومساؤها مساء المحبة وبخاصة فيما وهبها الله زوج صالح أضاف الى ألوان حياتها القاتمة الوانا زاهية فكان بلسما لقلبها وعقلها,, فلم يكن بوسعها ازاء تلك الأمور سوى ان تقبل على الحياة تعب من كأسها فرحة جذلة سالية القلب هانئة الفؤاد قانعة تتجدد سعادتهما مع بداية كل فجر جديد,, الا ان تلك السعادة لم تستوف عمرها,, ولم تكن تعلم ان الزمن يطاردها وان التعاسة تلاحقها فقد حل بها أسى مفجع التهم معه ذلك الزوج بعد ان وهن منها العظم دون ان يترك لها تذكارا من زينة الحياة الدنيا,, فأمسى نهارها قاسيا وليلها أقسى لأنها باتت تعاني مرارة الغربة والوحدة,, الغربة لأن من حولها بات يتغابى كي يعفي نفسه من فهم احتياجاتها مادية كانت أو معنوية ,, والوحدة لأنها آلت على نفسها منذ انهيار صرح سعادتها وتخلى الجميع عنها ان يكون فؤادها رمسا ابديا لذلك الماضي,, وضعت امام المتطفلين اشارات نارية تمنعهم من اقتحام ما تكتنفه خوالجها من آلام. ارتجاج عربة الاسعاف اعاد اليها وعيها ثانيا فمدت يدها المرتعشة الى أخاديد وجهها التي أضحت مستنقعا للدموع والدماء. هالتها الدماء وارهبتها الآلام أخذت تتكاتف عليها فطفقت تجيل بصرها في كل ما يحيط بها الى ان استقرت سهام بصرها على وجهه فأرادت ان تحرك شفتيها محاولة النطق ببعض الكلمات التي ذابت في فمها قبل وصولها الى الآذان. برودة مؤلمة اخذت تغزو أرجاءها حينها ادركت ما حدث لها,. موسيقى صاخبة,, سرعة جنونية,, طفل مدلل ثبت خلف مقود عربة انيقة طبع عليها وسام الرفاهية والبذخ,, خاطره الجهنمي قاده الى امتطائها بقسوة فلم تجد ملاذا امامها سوى ان تفرغ شحنة حنقها بصفعة قوية لذلك الجسد البالي الذي سحقه الزمن وأبلاه الألم. وفي محاولة يائسة استطاعت ان تنزلق من بين شفتيها بعض الكلمات المتقاطعة,, لق,,, د,, قت ,, ل,, ن ,, وقبل ان تمزق حجاب صراخها كانت قد ودعت العالم بأسره قبل ان تسمع قائلها يرفع عقيرته بالصراخ مستنجدا ,, بابا,, بابا,, اريد بابا,.