يخيم الهدوء والصمت على شوارع وأزقة وبيوت قويزة والصواعد، أجواء كئيبة لم يعد للفرح فيها مكان، أحياء يسكنها الموت والألم والحزن بعد أن كانت عابقة بالفرح والضجيج والابتسامات والأحلام، ولم يعد أطفالها يملأون شوارعها وساحاتها بالضجيج والمرح الطفولي المفعم بالسعادة والشقاوة والبراءة، بلدة كانت في ذات يوم عامرة بالحركة والنشاط قبل أن يجتاحها سيل الأربعاء الحزين ويغرق أحلامها وبراءة أطفالها ويبتلع الكثير من أهاليها.. من هنا مر الموت وكانت الفاجعة في ذلك اليوم الحزين، الذي تحول فيه الفرح بانتظار عيد الأضحى إلى حزن جارف يسكن الأحداق والوجوه، وإلى صراخ وعويل تطلقه الأفواه من كل صوب وهي تحاول أن تقاوم الموت وتتمسك بالحياة إلى آخر لحظة، بينما تغوص الأجساد في الوحل وتغرق في المياه الهادرة..هنا أم تحاول أن تتشبث بجذع شجرة أو جدار أو طرف سياج سور حديدي وتحاول أن تمسك بوليدها الرضيع في حضنها وهي تصرخ لمن حولها أن يساعدونها في إنقاذ أبنائها وإخراجها من السيل المندفع، ولكن صراخها وطلبها للنجدة يضيع في الفضاء لأن كل من حولها مشغول بنفسه وإنقاذ أبنائه وأسرته..وفي مكان آخر تجرف السيول إلى حفر الموت التي حفرها مقاولي الغفلة عشرات السيارات بمن فيها من أسر لتبتلعها في لمح البصر. شوارع الاحياء معطلة امام حركة السير الكثير من الذين عاشوا المأساة وكتبت لهم الحياة يقولون إن السيل لم يكن متوقعا بالنسبة للسكان، وأنه جاء فجأة مندفع بسرعة كبيرة وقوة هائلة، هرب البعض إلى أسطح البيوت محاولا النجاة بعد أن وصل ارتفاع المياه إلى أكثر من أربعة أمتار، ولكن بعض البيوت لم تستطع الصمود في وجه السيل فتساقطت كأنها ألواح وجرف السيل كل من فيها من بشر ومتاع وسواها بالأرض في لمح البصر. عندما ذهبت إلى الأحياء المتضررة من السيول -خاصة الصواعد وقويزة وماحولها- وتجولت وسط أنقاضها، أحسست أن الحزن والكآبة تملأ المكان، وأن الوحشة تحيط بي من كل جانب والقشعريرة تملأني، ووالوجوه التي عاشت تلك المأساة قد حفر فيها الحزن أخاديد غائرة، وعيون الأطفال تشرع مساحات شاسعة من الحزن الصامت وهي تدور في محاجرها ذهولا وألما على فقدهم لقريب أو صديق أو جار كان يشاركهم اللعب والفرح الطفولي أو يذهب معه إلى مدرسة الحي. ويحمد السكان الله أن الكارثة حدثت في وقت عطلة المدارس، وإلا والعلم عند الله لكانت أعداد الضحايا أكبر بين الأطفال، لأن مدارس تلك الأحياء قد غطتها المياه وأغرقها السيل. وقال المواطن صلاح الزهراني: لقد كانت الكارثة فضيعة ومفزعة إلى درجة ترى فيها الشاحنات والسيارات الكبيرة كأنها لعب أطفال، وقد وصل ارتفاع السيل في بعض الأماكن إلى أكثر من مترين، ومما زاد الكارثة أن السيل حمل معه كميات كبيرة من الطمي والطين أدت إلى طمر السيارات ومن فيها، وكذلك طمر الناس الذين أخذهم السيل في طريقه. المواطن خالد الشهراني الذي فقد ثمانية من أقاربه في السيل يتحدث عن ذلك المشهد الجنائزي بقوله: أتصل بي زوج أخت زوجتي يخبرني أنه محجوز في كيلو عشرة بسبب الأمطار، وطلب مني أن أذهب لمعرفة وضع عائلته الذين يسكنون في الصواعد، وعندما وصلت للمنطقة وجدت بيتهم متهدما وأسرته المكونة من أمه وزوجته وأخته وأبنائه الخمسة قد جرفهم السيل وابتلعتهم المياه الجارية، وبعد الكارثة عثرنا في أول يوم على طفل من أبناء عديلي، وبعد ذلك على أخته ومن ثم طفلة، ولا زال عدد من أفراد أسرته مفقودا حتى اليوم. ورغم مرور الأيام لم تخرج الأحياء المنكوبة من حزنها وألمها، وكل من فيها يطالبون بمحاسبة كل من كان له دور في تلك الكارثة، وأن لا نحمل المواطنين البسطاء أخطاء الغير ومسؤولية التلاعب في مقدرات الوطن وضياع أموال الخدمات التي رصدت من أجل خدمته لكن ضاعت في مهب الريح.