موريس تاميزيه يعد موريس تاميزيه وهو شاب فرنسي من ابرز الرحالة الأجانب الذين زاروا الطائف في أوائل ثلاثينات القرن التاسع عشر الميلادي مرافقا لجيش محمد علي باشا الذي كان في طريقه لإخماد ثورة عسير ضد الوجود المصري العثماني، وذلك في عام 1834م, واقتضت ظروف تلك الحملة العسكرية الكبيرة توقفها في الطائف لفترة من الوقت لاكتمال استعدادها للقيام بمهمتها (2) , فاستغل موريس تاميزيه فرصة ذلك التوقف في التجوال في أنحاء مدينة الطائف وفي المناطق المحيطة بها وقدم لنا فصلين ممتعين عن الطائفالمدينة والتاريخ والآثار والحياة الاجتماعية، ووصفا لأوضاعها الاقتصادية وتركيبتها السكانية. وبما أن هذين الفصلين يكونان جزءا من العمل المتكامل لهذا الرحالة الذي وصف فيه رحلته منذ بداية انطلاقتها من مصر مرورا بالسواحل الحجازية، ووصولا إلى جدة ثم صعودا إلى الطائف،فإن العمل قد اكتملت ترجمته والتعليق عليه ونشر نشرا مبدئيا في جريدة البلاد على حلقات وهو الآن مكتمل، وسيأخذ طريقه إلى النشر متزامنا مع عمل زميله السابق له جيوفاني فيناتي. ولهذا فلن اثقل على القارىء في هذه المشاركة بالحديث عن عمل قد لايتسع المجال للحديث عنه، لاسيما والعمل مكتمل وسيرى النور قريبا, ولذا آمل من القارىء الكريم قبول العذر والانتقال به إلى الحديث عن الرحالة الاوروبي الثالث, شارلز ديديه والذي من أجله ستخصص هذه الحلقات وما كتبه عن الطائف هو ما سيكون محور هذه الورقة او البحث او المشاركة. وقبل الحديث عن شارلز ديديه، أود الإشارة ولو بشكل مختصر إلى ذكر من زار الطائف من الرحالة الأوربيين في خلال القرن التاسع عشر، وحتى الثلث الاول من القرن العشرين، لكي يأتي المحتوى منسجما مع العنوان، ولكي نهيىء القارىء الى ان جميع كتابات الرحالة الاوربيين عن الطائف تعتبر مادة دسمة وتستحق كل اهتمام من الباحثين والدارسين، ولذا فإنه سيتم جمعها في مجلد واحد، وهذا ما أنوي عمله قريباً بإذن الله، ضمن سلسلة المدن السعودية في عيون الرحالة. زار الطائف بعد شارلز ديديه بحوالي اربع وعشرين سنة الرحالة الشهير شارلز داوتي Charles Doughty، وذلك في عام 1878م قدم إليها من القصيم في رفقة قافلة من قوافل القصيم لذلك العام ومكث فيها عدة اسابيع في ضيافة شريف مكة وصف في خلال رحلته هذه بعض آثار الطائف، ومنها بقايا الآلهة الوثنية القديمة مثل اللات والعزى، كما قام بزيارة الى سوق عكاظ، ووصف مقابلته للرسميين من موظفين وضباط عرب وأتراك. وغادر الطائف إلى جدة حيث قدم وصفا للطريق ورفاق السفر, وما اورده شارلز داوتي عن الطائف ورد في المجلد الثاني من كتابه المعنون Travels in Arabia Deserta. فيلبي في الطائف عام 1918م في مطلع هذا القرن يعد فيلبي اول اوروبي يزور الطائف قادما إليها من نجد اثناء محاولته كمندوب رسمي للحكومة البريطانية تقريب وجهتي النظر بين الملك عبدالعزيز والشريف الحسين بن علي, وقد قدم في كتابه قلب جزيرة العرب Heart of Arabia انطباعه عن الطائف، من حيث مناخها وانواع منتجاتها الزراعية،وأنواع الفواكه التي لايوجد لها مثيل في جزيرة العرب، وأحوال سكانها وأنواع مهنهم, وكان قدوم فيلبي إلى الطائف في فصل الشتاء, فلم تكن المدينة مبهجة وكانت الاشجار عارية من اوراقها وقدم وصفا لمسجد عبدالله بن عباس من حيث عمارته واروقته واتساعه ومناراته, كما زار ما بالمدينة من ثكنات عسكرية، ووصف أحياء المدينة والأودية التي تخترقها. في عام 1930م قام فيلبي بزيارة أخرى للطائف كتب عنها فصلا ممتعا في كتابه A pilgrim in Arabia، كما قام بزيارة واسعة للمناطق المحيطة بالطائف, ويمكن القول إن ما قدمه من وصف لما شاهد من القرى والارياف يعد عملا رائدا غيرمسبوق,كما ضم هذا الكتاب صورا نادرة عن الطائف و ما بها من آثار قديمة. اما الرحالة ايلدون روتر Eldon Rutter، فقد زار الطائف بعد أدائه فريضة الحج في تلك السنة التي ضم فيها الملك عبدالعزيز الحجاز، وقدم وصفا لمدينة الطائف بسورها وبواباتها وطرقاتها وحياة سكانها وآثار ما تعرضت له من جراء دخول جيش البادية فيها, وجاء وصفه هذا في كتابه The Holy Cities of Arabia المدن المقدسة في جزيرة العرب المجلد الثاني المطبوع في لندن عام 1928م. وبعد أن استعرضنا بشكل سريع ما وصل إلى علمي من كتب الرحالة الأوربيين الذين زاروا الطائف في العصور الحديثة نعود مرة أخرى إلى محور حديثنا في هذا العمل وهو الرحالة شارلزديديه، فنقول إنه شاعر وروائي وكاتب وصحفي ورحالة فرنسي ولد في مدينة جنيف عام 1805م حيث كانت عائلته قد هربت إليها طلبا للحرية الدينية. درس شارلز ديديه في جنيف القانون،وعلم النبات والرياضيات وكان أول إنتاجه الأدبي ديوانا من الشعر، ولكنه سرعان ما اكتشف ان ميوله تجنح إلى كتابة الرحلات كما انشغل بالعمل الصحفي، وله باع طويل في هذا الميدان إذ اسس عددا من الصحف بنفسه. في عام 1848م ارسلته حكومته في مهمة رسمية إلى بولندا حيث أصبح مطلعا في شؤون تلك البلاد، وكذلك ألمانيا وما جاورها. كتب كثيرا من الروايات والاشعار وتسجيل اشعار الحروب, وبما أنه شغوف بكتابة أدب الرحلات وبالرحلات ذاتها، فقد ذهب في أول زيارة له إلى بلد عربي إلى المغرب في عام 1833م، وعاد بعدها إلى ايطاليا، حيث كتب عنها عددا من الكتب, انتهت حياة شارلز ديديه نهاية مأساوية إذ فقد بصره تماما بعد عودته من رحلة الحجاز، مما جعله يعجل في إنهاء حياته بالإقدام على الانتحار في باريس بتاريخ 13 مارس 1864 منهيا حياة حافلة بالإنتاج الأدبي والثقافي المتنوع. مع أن رحلته التي قام بها الى الحجاز في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر ذات اهمية فإنه ظل منسيا من قبل اولئك الذين كتبوا سير الرحالة الذين زاروا الجزيرة العربية، أو الذين اهتموا بكتاباتهم مثل هوقارث، وكيرنان، وبدويل، وبرنت، وفريث، والاكثر غرابة انه لم يرد له ذكر لدى السيدة جاكلين بيرن في كتابها اكتشاف جزيرة العرب، وهذه ظاهرة نلمسها تتكرر في حالات أخرى لبعض الرحالة الفرنسيين، اذ لانجد عن سيرهم الذاتية ودوافعهم الحقيقية في القيام برحلاتهم الى بلاد المشرق، خاصة لدى الكثير من المصادر الفرنسية، وذلك بعكس الرحالة الإنجليز بصفة خاصة إذ نجد معلومات مفصلة عنهم فيما كتبه عنهم أبناء جلدتهم، ومن ثم اصبحت اخبارهم واضحة فيما يكتب عنهم من قبل مؤلفين اجانب. اما سبب مجيئه الى الجزيرة العربية فلم يكن واضحا، وربما لم يكن مخططا له كما ذكر ذلك صراحة في مقدمة كتابه, ذكر أنه نتيجة ملله من باريس ومن فرنسا ومن اوروبا نفسها لاسباب بعضها خاصة، وأخرى عامة، والتي يرى ان الحديث عنها غيرمفيد أو لايمكن الإفصاح عنه، لهذه الاسباب كلها يمم ديديه جهة الشرق للبحث عن الهدوء والامان او النسيان, وكانت وجهته القاهرة، حيث مكث فيها اجمل شهور الشتاء غير القابلة للنسيان. واثناء ما كان يعد العدة للعودة إلى أوروبا عن طريق أثينا قابل أحد أصدقائه الإنجليز، فعرض عليه أن يرافقه في رحلة الى جبل سيناء، ومن هناك ربما قاما بالرحلة إلى جزيرة العرب لزيارة شريف مكة، والذي كان يقيم حينذاك في مدينة الطائف, طلب ديديه من صديقه مهلة للتفكير،ولو لمدة اربع وعشرين ساعة وقد قرر في النهاية الموافقة على مشروع تلك الرحلة التي بدأت بتاريخ 16 يناير من عام 1854م. وكانت حصيلة تلك الرحلة هذا السفر الذي كتبه عن رحلته الى الحجاز والذي يعد في مصاف الكتب الجيدة من كتب الرحلات اذ ذكر المؤلف ان نتيجة ماكتبه من ملاحظات يومية لوقائع رحلته،هي ملاحظات يكتبها من موقع الحدث بهدف التأكيد للقارىء بان ما اورده ما هي الا حقائق، لعله بإيرادها يتمكن من تنوير بعض العقول في أوروبا التي لا تزال مخدوعة بالألاعيب التركية على حد قوله, ومن الجدير بالذكر ان السيد ديديه يبدو متحاملا على الدولة العثمانية بشكل واضح، ويظهر ذلك كلما سنحت له الفرصة إلى التعريض بسياسة تلك الدولة، او تصرفات رجالاتها ومسؤوليها. وما اختياره لزيارة شريف مكة حينذاك الشريف عبد المطلب بن غالب الذي ظل مقيما في الطائف لعدة شهور إبان بلوغ حدة خلافه مع الدولة العثمانية ومع ولاتها في الحجاز مداه، إلا دليل قاطع على إعلان تعاطف ديديه مع الشريف في خلافه مع السلطات العثمانية. وصل السيد ديديه الى مدينة جدة في منتصف شهر فبراير 1854م حيث حل ضيفا على القنصل العام الفرنسي الذي كان مريضا يحتضر، كما تعرف إلى القنصل العام البريطاني، والذي ذكر انه كان يقيم لديه اكثر مما كان يقيم في البيت الذي خصص لإقامته. وكما هو واضح فإن هدفه الاساسي من زيارة الحجاز هو رغبته في مقابلة شريف مكة الذي كان يقيم حينها في الطائف. كتب إلى الشريف يستأذنه في زيارته، فجاء الجواب بأسرع مماكان يتوقع بالموافقة، وذكر الشريف عبد المطلب في جوابه بأنه سيتحمل كافة تكاليف سفره ومن يرافقه، وسيبعث إليه بمن يتولى امر حراسته اثناء رحلته إلى الطائف, سر السيد ديديه بهذا التجاوب،واعتبر ان ماجاء من اجله قد تيسرت اسباب تحقيقه. لم تكن تنقص السيد ديديه الفطنة والكياسة وتقدير الاوضاع، خاصة والاجواء متوترة بين الشريف ووالي الحجاز السيد احمد عزت باشا, ولذا فقد قام بزيارة للسيد الوالي الذي كان يقيم في جدة حيث استقبله استقبالا رسميا، وتحدث معه كثيرا عن مجريات الحرب الدائرة في القرم التي وقفت فرنسا وبريطانيا فيها إلى جانب الدولة العثمانية, قال ديديه عن الوالي احمد عزت باشا: إنه مثقف وشاعر ومتحضر قياسا بمعيار التحضر لدى الاتراك ، وحدثه عن اوضاع ولايته وتحسن الاوضاع بها يعكس ذلك التحسن ارتفاع عدد السكان في مدينة مكة على سبيل المثال. وحينما فاتح السيد ديديه الوالي في موضوع سفره الى الطائف لم يعترض الوالي، بل استعد بتجهيز حراسة من جنده الخاص لمرافقته اثناء رحلته، ولكن هذا ما لم يستسغه السيد ديديه حيث ذكر أنه لايعقل أن يزور الشريف ويصبح في ضيافته، وهو تحت حماية جنود عدوه (أي الوالي) ولذا كان رده بانه سيسافر وعلى نفقته الخاصة، واعلن الوالي من جهته عدم تحمل مسؤولية ماقد يحدث. بعث الشريف عبدالمطلب إلى وكيله في جدة السيد مصطفى افندي يبلغه بانه اعد الوسائل والفريق الذي سيرافق السيد ديديه إلى الطائف, وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر فبراير 1854م حضر الشريف حامد وهو شاب في السابعة والعشرين من عمره وصفه ديديه بأنه داكن اللون وله عيون سوداء كبيرة مليئة بالحيوية وباللطف وله اسنان ناصعة البياض، وصوت شاب مفعهم بالقوة وابتسامة جذابة,, يرتدي عمامة بيضاء كبيرة وجبة حمراء ويلبس خنجرا ثمينا يلمع في حزامه , وقال إنه من اركان الحكم او الإدارة في مكة، وكان يرافقه خمسة او ستة من العرب المدججين بالسلاح والذين يرتدون ملابس رائعة. رافق السيد ديديه في رحلته إلى الطائف السيد م ديكوي M.. Dequie مترجم القنصلية الفرنسية ورئيس الموفظين فيها، وذلك بناء على طلب تقدم به إلى السيد القنصل للسماح له بمرافقته في رحلته لمواصفات قل أن يجدها في غيره إذ يجيد اللغة العربية ولهجة أهل البلاد، وخبير ومطلع على أوضاعها، وطاقم يتكون من رفيق سفره من القاهرة وستة من الخدم منهم أوربيان أحدهما بلجيكي والطباخ كاسبرو، إضافة إلى الشريف حامد ومعه أحد أقاربه والسيد أحمد العمودي رئيس هجانة الشريف (عبدالمطلب) وأكثر من (درزن) من خدم الشريف وخاصته. لن أدخل في تفاصيل الرحلة من جدة إلى الطائف فالحديث عنها يطول وربما أتينا عليه في غير هذا الموقع. وسننتقل مباشرة إلى ايراد ماكتبه السيد ديديه عن الطائف، وكما أورده حرفيا دون زيادة او نقصان, كنت اتمنى ان يسمح الوقت والمساحة بالحديث عن الخلفيات التاريخية لتاريخ الحجاز خلال هذه الفترة واسباب الصراع بين الشريف عبدالمطلب رحمه الله والسلطات العثمانية اذ تعد هذه المرحلة من تاريخ الحجاز من اهم واغنى المراحل واكثرها تطورا بالاحداث وانعكاسات تلك التطورات على الاوضاع السياسية في بقية انحاء الجزيرة العربية. وقد تناولت تاريخ هذه الفترة بالتفصيل في رسالتي للدكتوراه، والتي تمت ترجمتها وهي جاهزة للطبع حيث غطيت في دراسة تاريخية مفصلة معتمدة على ادق الوثائق العثمانية واهم احداث واوضاع تلك المرحلة, كما وقد قمت بنشر بحث عن جزئية من هذه الاحداث بعنوان دور عسير في احداث الحجاز في الفترة مابين 1267ه / 1850م 1272ه/1855 في عهد الشريف عبدالمطلب على ضوء الوثائق العثمانية (2) . ارجو أن اكون بهذ المناسبة قد اسهمت بشيء يضاف الى تاريخ مدينة الطائفالمدينة التي نحبها جميعا، وأن أكون قد ساهمت بالكشف عن رحالة ظل ما كتبه عن الحجاز بعامه والطائف بخاصة مجهولا حتى من قبل المؤرخين الأوربيين انفسهم. مع يقيني بأنني لم اوف الموضوع حقه، إذ كُتب على عجل، وفي فترة تكثر فيها مشاغل الإنسان نظرا للارتباط بكثير من الالتزامات, وسوف تكون هذه المحاولة أو المشاركة المتواضعة تمهيدا لجمع كل ماكتبه من أشرت إليهم من الرحالة في هذا البحث عن الطائف, وأرجو من الله أن يكون ذلك قريبا. *أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر جامعة الملك سعود *** (1)نشر هذا البحث في المجلة التاريخية المغربية للعهد الحديث والمعاصر، السنة العاشرة، العدد 2930 يوليو 1983م,واعيد نشره في كتابنا دراسات من تاريخ عسير الحديث، مطابع الشريف، الرياض 1412ه/1991م. (2)انظر تفاصيل هذه الاستعدادات في رحلة في بلاد العرب الحملة المصرية على عسير 1249ه/ 1834م تأليف موريس تاميزيه، ترجمه وعلق عليه د, محمد بن عبدالله آل زلفة مطابع الشريف، الرياض 1414ه.