في احدى المربعانيات النجدية كتبتُ قبل ما يقارب عقدا ونصف عقد من الزمان مقالاً بعنوان: في الصيف ضيعت البترول بمجلة اليمامة وكان يرأس تحريرها وقتها رجل تخرج للتو من جامعة السوربون بباريس وأتى يحمل تصورات طازجة عن قيمة الشفافية والصدق والمصارحة في الطروحات الصحفية خاصة عندما تعنى بالشؤون والشجون الاجتماعية وذلك قبل أن تصبح كلمة الشفافية الكلمة الأثيرة في صحافة اليوم والحمد لله, وقد اجاز الدكتور فهد العرابي الحارثي المقال، فاتفق على ما جاء فيه من اجتهاد شخصي من اتفق كما اختلف معه من اختلف ولكن دون ان يفسد الخلاف للود قضية مادامت القضية حب الوطن والخلاف مجرد اختلاف في الرأي وصيغ التعبير عن هذا الحب, وها هو الوطن الآن يتوج تعود الرؤى وضرورة مشاركتهم في خدمة القضايا الوطنية بايجاد مجلس أعلى للاقتصاد الذي يعتبر البترول حبله الشوكي. أما في هذا الصيف القائظ فقد اخترتُ وأرجو ألا أندم على هذا الخيار أن أكتب هذا الموضوع الذي أطرحه اليوم بعنوان في الصيف ضيعت الماء وعندي بعض الثقة أن معظم من قد يزعجهم هذا التعبير الذي قد يستشم منه رائحة استعارة تعابير التراث بصيغ جديدة وقد يوحي علامات مائية هم الآن هاجعون بعيداً في منتجعات بعيدة حيث لاتصلهم الصحف المحلية ولاتزعج بياتهم الصيفي خارج الحدود اسئلة قد لاتهمهم لأنها لا تتعلق بالحاضر بقدر ما تتعلق بحصة الأجيال المستقبلية من حق الماء. وبعد هذه المقدمة الاعتذارية الطويلة عن الخوض فيما يعنينا وان بدا انه لايعنينا من اشكاليات الحاضر وتحسبات المستقبل اسمح لنفسي في الدخول إلى صلب الموضوع, وصلب الموضوع باختصار مخل كمن يريد أن يلم الصحراء المترامية في قدح ماء هو الماء, لقد جعل الله سبحانه وتعالى من الماء كل شيء حي، فكيف تسمح البشرية لنفسها بأن يكون الماء وسيلة لقتل الأبرياء, فقد جاء في كتاب الأمين العام الحالي للأمم المتحدة اشارة واضحة بل فاضحة إلى عدد الذين يقتلون بسلاح الاستخدام الفاسد للماء من قبل فئة قليلة على حساب الأكثرية, إذ يتسبب استخدام المياه غير الصالحة للاستخدام الآدمي الإصابة بما يقدر ب 80% من مجموع الأمراض في الدول النامية وبه يتجاوز المعدل السنوي للوفيات 5 ملايين وحسب تقديرات هذا الكتاب مايعادل عشرة أضعاف عدد القتلى في الحروب في المتوسط السنوي وأكثر من نصف هؤلاء الضحايا هم من الأطفال, هذا إذ ارتفع معدل الاستهلاك العالمي من المياه العذبة كما جاء بالأرقام ارتفاعاً سداسياً من بداية القرن الميلادي إلى ماقبل نهايته بخمس سنوات, وهذا الارتفاع يشكل أكثر من ضعف معدل نمو السكان العالمي, وتتضح خطورة هذه المعادلة غير العادلة إذا عرفنا أن ثلث سكان العالم ينتمون إلى بلدان تواجه احتمالات كارثية فيما يتعلق بشح الماء بما قد يؤدي لاسمح الله إلى موت شخص واحد من كل ثلاثة أشخاص على كوكب الأرض بحلول عام 2025. السؤال الذي قد يقاطع به بعض القراء تدفق أملاح الأحلام في هذا المقال هو سؤال، ما علاقتنا بهذا الأمر إذا كانت أزمة الماء تبدو أزمة عالمية؟, وهو سؤال إذا تغاضينا اجرائيا عن رائحة المحلية الضيقة العالقة به سؤال قابل للنقاش وان كنت أرى ان الأجدى ان نسأل عن دورنا كمجتمع ودولة في مواجهة هذه الأزمة، على أية حال باختصار مخل مرة أخرى وأخرى كمن يعلق قنديلا قرب عيد الشمس فان الاجابة هي أن منطقة الشرق الأوسط ومنها شبه الجزيرة العربية على وجه التحديد من أكثر مناطق العالم تأثراً اليوم وإلى الغد المنظور بقلة الماء وهي أيضاً من المناطق التي يهدد يومها وغدها القريب سحب المياه الجوفية بكميات أكبر من طاقة أرضها على تجديدها بالأمطار, هذا فيما يرتع قطاع من الناس عن عدم وعي وطني وبيئي أو لنعمة لم يتعبوا في الحصول عليها في برك السباحة وحمامات البخار أو يغسلون شوارعهم والشوارع ما بعد شوارعهم المجاورة بمياه غسل سياراتهم. وإن كنت أشم في المناخ العام لوطننا كما تشم الخيل رائحة اقتراب المطر، توجهاً لترشيد صرف الماء وكتوعية شعبية بمسؤولية كل مواطن أيا كان موقعه على السلم الاجتماعي في المحافظة على لؤلؤ الماء, كما قرأتُ في هذا الصدد اقتراحات عملية تستحق سرعة التطبيق فيما كتبه مؤخراً د, عبدالعزيز الفيصل وم, عبدالعزيز السحيباني وسواهما من الكتاب ومنها ضرورة إنشاء مؤسسة تتخصص في العناية والتوعية بشؤون الماء وفي وضع الدراسات المستقبلية غير المؤجلة في سبل تطوير مصادره التقليدية وإيجاد مصادر بديلة واستثمار البيئة في اختراع أو استحداث هذه البدائل، بالإضافة إلى التعاون العربي والخليجي. ومع هذا فان سؤال الماء على مستوى عربي عام ما يزال سؤالاً يؤرق العامة (ومن يسمون بالرعاع) فيما لايبدو انه في وارد أرباب السياسة, ففي الوقت الذي تشتري فيه دولة العدو الاسرائيلي كميات كبيرة من مياه تركيا وتستميت في عدم اعادة انش واحد من الأراضي المحتلة التي تتمتع باحتمال قطرة ماء هذا عدا عن إقامة معاهد ومؤسسات الدراسات الاستراتيجية فيما يخص الماء، فان الوطن العربي يشعل الحروب الداخلية والحدودية المجاورة لمحاكمة كتاب ومصادرة رأي سياسي أو اجتماعي فيما تجف بصمت مميت موارد الماء من المحيط إلى الخليج كما جاء في احدى افتتاحيات جريدة الرياض فهل لهذا العالم النائم على عصاب التهميش القهري أو وسواس توالي سياسة الخيبات ان يحلم بقليل من الماء يغسله من ملوحة البحر وظمأ الصحراء وتكرار نفس الأخطاء. لئلا يأتي يوم يصبح لدينا جيل من متسولي الماء ربما علينا ألا نكتفي من الماء بحلم الماء. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.