عندما كان نجيب منهمكاً في قراءة كتاب يحوي أحدث طرائف شيخ التهريج (شطة) بعد أن ظفر بالمتجر الذي كاد غريمه يسبقه إليه دخلت هي عليه,, وقتها كان يهم بإطلاق ضحكة مجلجلة أثارتها في ذاته إحدى المُلَح,, أقبلت تتهادى كالمعتاد ثم تسارعت خطاها في عصبية واضحة ماسحة أنف طفلها بغلظة قبل ان تقول لنجيب: أرجوك,, اكتبها اليوم إذ إني لم أذق للنوم ليلة البارحة طعما أنا تعيسة حقا! ذلك اليوم كانت تغشاه نفحة كرم,, ثم ان تلك اللاجئة قد ساعدت أمه كثيرا في طحن القمح والذرة كما أن مسحة من الجمال قال في نفسه لازالت عالقة بها ولو انها كانت أحسن حالا لبدت غاية في الجمال,, تمتم في ذاته متأملا الوافدة البائسة وقد خرج بذلك الانطباع الإيجابي عنها بعد أن رنا اليها بعين الرضا غاضا بصره عن ملابسها المتسخة وشعرها الأشعث ثم,, ثم انها كانت ترجوه لسبعة أيام خلت أن يكتب لها ذلك الخطاب,, ماكلَّت المسكينة او ملَّت وما أقعدها اليأس, واستل ورقة عريضة كيما يكتب خطابها الذي وصفته بالهام ثم قال لها: اجلسي! وجلست على مهد طفلها المفتول من عدة حبال غليظة ثم أمطرته بوابل من الدعوات وعبارات الشكر والامتنان قبل ان تحمل طفلها فتلقي به الى جانبها كحزمة من أسمال بالية! وشرع الصغير في مداعبة حبال مهده بيدين قذرتين واصطبغت ملامحها بطابع الجدية فتوترت خطوط محياها وزمت في إحكام قبضة يدها اليمنى: وجّه الخطاب الى رئيس الدولة! ورفع نجيب اليها وجها يفيض التعجب من قسماته فيما خامره شعور بالأسف لأنه ترك كتاب الطرائف من أجل ترهة كهذة على أن قبضة المرأة كانت أشد إحكاماً من ذي قبل فيما بدا جفناها وكأن قد تلاشيا. ومص الصغير أصابع قدميه عبر حبال مهده ثم شرع في البكاء وبدأت المرأة بصفعه على قفاه ثم سحبته في عنف وقذفته في مهده, مجدداً وبدت على بطتي ساقيه المتسختين آثار قديمة لحكة دامية. أيها القرد قالت مخاطبة طفلها لماذا لم تمت هناك وبقيت ملتصقا بي كحظي العاثر أفٍّ لك. وزم الطفل شفته السفلى منتظرا أن تراضيه أمه بقبلة على جبينه تسلمه الى نوازع البكاء على أنها ما فعلت,, التفتت الى نجيب فأناخ الصغير إلى مركب اليأس شراعه وعاد يلهو بحبال مهده! ليكن إذاً حظك واضحا كيما يتسنى لسيادته قراءته,, وقل له اني إبان تحرير ارضنا كنت وزوجي نعمل في الدولة المعادية المجاورة لدى أحد أبناء شعبها المتعاطفين معنا زوجي كان نادلا فيما أوكلت لي مهمة غسل الأطباق في ذلك البيت الكبير, كان الباري قد حبانا كل شيء وكان لنا من الأبناء ثلاثة,, غاية في الحسن واكتمال الصحة مرت وافدة يوما بجانب السور فنظرت عبر فتحاته الى أولادي وكانوا في حديقة البيت يلهون فقالت: لا بد وان هؤلاء ابناء المالك، أليس كذلك يا أخيّة؟!,, ووقفت عن الإملاء برهة فحملت الصغير وقبلته ثم مسحت بقسوة ساقيه قبل ان تقول: لقد كان هو أيضا غاية في الحسن سابقا ما كساه ذلك الاسمرار غير مخيم اللاجئين. كان بال نجيب مشغولا بمتجره الجديد كما انه كان يتعين عليه قراءة النصف الباقي من كتاب الطرائف، والمُلَح فتمتم مستعجلا إياها في ضيق: هم م م م,,, كان لديك إذاً ثلاثة أبناء! ورمت بالطفل في مهده ثانية غير ان قدميه الصغيرتين علقتا في الحبال فبدأ يبكي وجذبته في عنف فألقت به على الأرض وزم المسكين شفته السفلى لوهله ثم رفعها في يأس تارة اخرى وحبا على أربع فخرج عبر الباب المفتوح, ولم تبد أمه شيئا من الاهتمام بل انها غرقت في لجة من أفكار فتل الإحباط خيوطها وشرعت في قضم أظافرها. ووضع نجيب كتاب الطرائف الذي كان قد استدناه مجدداً ثم ثنى رجله ومدها ثانية في ضيق لا مراء فيه قبل ان يقول: ماذا أكتب كذلك؟ ونفثت هلام الأظافر المقضومة ثم تابعت: اكتب بأن شيئا مريعا قد حدث بعد ذلك, إذ ان زوجي كان يهم بالخروج يوما حين عاجله أحدهم عند الباب بطعنة نجلاء قضت عليه,, وقتها كنت أرضع طفلي الذي احتضنته وعدوت به صوب أبيه الغارق في بركة من نجيع فجثوت عليه لكن بعضهم اتجه صوبي فأطلقت للريح ساقي ولجأت الى بيت صديق لزوجي اخفاني في المطبخ فيما استمر الهرج والمرج والشجار في الخارج طويلا، وفي المساء جاء الرجل الطيب وفي يده مصباح وسكين وأخبرني ان الموت ينتظرني إما اكتشفت هويتي ونصحني بأن أجمع حاجياتي فأتوجه الى الحصن القديم تمهيدا لإعادتي الى بلدي وعندما عدت معه عبر الشارع المهجور الموحش الى منزلي كانت جثة زوجي جاثمة هناك على قارعة الطريق لما تزل الفرق الوحيد انه كان آنذاك ملقى على ظهره,, ودخلت مع صديق زوجي حديقة المنزل فرأيت طِفلَيّ جثثا هامدة,, وأحشاؤهما فيما بينهما نثار! أما المنزل فقد نهبت محتوياته. ولم يستطع نجيب وأد ضحكة اعتملت في ذاته. لقد ألقت نكتة ظريفة قال نجيب واضعا قلمه جانبا ومصفقا في جذل: (رأيت طفليّ جثثا هامدة وأحشاؤها بينهما نثار) هذا رائع بالإمكان استظراف كل شيء,, حتى الموت! واستل قلمه ثانية ثم انحنى على الخطاب المبتور مرارا. واصفر وجه المرأة,, فيما بدا فمها الذي فغرته دهشة مريرة كفوهة بركان رهيب,, على انه لم يكن هناك أثر لدمعة واحدة في ناظريها وحملقت فيه بعينين دمرهما الحزن والأسى وطعنات الأحداث فكأنما باحت مقلتاها: كنت هنا أيام التحرير,, لا عجب ان أحشاء الرضع المتناثرة في نظرك نكتة بارعة و,. على أن نجيب تذكر المحل الذي ظفر به رغما عن غريمه فأدار القلم بين اصابعه ثم استحثها: حسناً فقد نهب المنزل,, وماذا حدث بعد ذلك؟ اخذني ذلك الرجل الطيب الى مخيم اللاجئين كانت ساعتها تنثر الكلمات كمدفع رشاش ,, وبعد ثلاثة أشهر كنت على تراب بلادي ثانية مع كثير ممن عانوا كما عانيت,, عندما بلغنا محطة الوصول كان علينا ان نجتاز إحدى المقابر,, شيء غريب سيدي ان تمر الى الحياة عبر تجاويف الموت,, وخامرني احساس بقرب حدوث شيء غامض على أنه كان عليّ أن اعيش من أجل طفلي,, وتوقفت فجأة ثم نظرت حولها: أين صغيري؟ سألت نجيب بيد أنها لم تنتظر الجواب إذ انطلقت خارجة لا تلوي على شيء. والتقط نجيب كتاب الطرائف، مجددا فيما تعالى صوت صفعات في الخارج دخلت المرأة بعده حاملة الصغير الذي قذفت به جانبا كلفافة من أسمال بالية. كان يأكل الطين قالت هذا ال,,, ابن ال,,, ثم توقفت فصفعته على خده ونظر الطفل الذي كان يضع يده الصغيرة على وجهه الى أمه وثمة تساؤل كبير يكاد يقفز من عينيه أن: أأحرم حتى من أكل الطين؟ تلك المرة ما تدلت شفته السفلى,, اكتفى بالنظر اليها بعينين دامعتين,, متسائلتين ان: حتى على الطين لا أخلو من الحسد! وشرعت المرأة في البكاء بمرارة,, ثم عمدت الى الصغير فحملته وضمته الى صدرها وقالت بنبراتٍ مرتعشة: اكتب,, سجل لديك بأني لا أجد ملجأ في وطني في حجم ذلك المطبخ الذي كنت أعمل فيه,, أنا,, تلك المسكينة التي طاردها سوء الطالع قد عدت الى هنا مع ثلة من أقارب لي تركوني وتفرقوا في أرجاء البلاد,, حاولت ان اكسب رزقي بعرق جبيني فعملت في طحن الذرة على ان نصيبي,, وكان حفنة من طحين لا تسمن او تغني من جوع لم تكن كافية لإطعام اثنين,, ثم عهد إليّ بصيانة احد الأضرحة لكن العامل القديم عاد فجأة فطردني شر طردة وقذف بطفلي في قبر نصف محفور رزأه الله في أقرب المقربين إليه وأدخله نار جهنم كيما يصطلي بلظاها في جحيم مقيم! اخرسي قال نجيب محدقا في وجه المرأة المولولة,, قبضتها كانت مشدودة لماتزل وبدت عيناها دون اجفان فيما ارجف الغضب جسدها حتى بدت كورقة في مهب ريح صرصر عاتية,, تحدثي ببطء يالك من ثرثارة لقد اضعت وقتي وشتّتِ أفكاري,, ماذا تريدين ان أكتب أيضا؟ القليل سيدي,, قل له باني لجأت الى العمدة لكنه كان في رحلة صيد وحاولت ان اقدم التماسا الى كبار المسؤولين إلا اني ما استطعت الاقتراب من أبوابهم ولا تتوفر لدي شجاعة كافية لممارسة التسول,, ظلت أجيال سبعة من عائلتي تأكل رزقا حلالا من عرق الجبين فكيف لبائسة مثلي ان تلطخ سمعتها,, ورفعت صوتها فجأة وهي تردف: ولن أزيد سيادة الرئيس على القول إنه إما مررت بنا فلن أطلب منك شيئا غير مثوى يأويني وصغيري مهما كان متواضعا لقد بذلت عصارة روحي وفلذات كبدي فداء لوطني,, وليس لي بعد الله سواك بعد إذ صعقني كل من التمست مساعدته بقوله: وما عساي أن أفعل؟ أما إذا خذلتني أنت أيضا ولم ترد على خطابي هذا فسوف أحمل صغيري وأسير حتى أبلغ العاصمة فاستوقف سيارتك ثم أطلب منك,. وماذا ستطلبين منه,, سألها نجيب بغضب بعد أن عجز قلمه عن تدوين سيل كلماتها,, كما لو كان هو رئيس الدولة! قبضتها كانت مشدودة الى درجة خيل اليه معها ان الدم سينبثق جراء انغراس اظافرها بباطن الكف فيما برزت أوردة رقبتها وصدغيها,, حدق فيها الرضيع الملتصق بصدرها بعينين بائستين غار فيهما نبع الأمل! ماذا ستطلبين منه كرر نجيب السؤال واضعا القلم على المنضدة سأطلب منه ردت المرأة في لهجة تآمرية ان يهبني حقي من الاستقلال. لن أكتب ذلك قال نجيب ملقيا بالقلم,, دافعا المنضدة بقدمه قبل ان يرفع كتاب الطرائف، تارة أخرى. ماذا جنيت كي أعرض نفسي للخطر والعقوبة معك إن ما امليته كاف لاستصدار حكم بسجن مؤبد لك! ماذا؟ سألته المرأة مرخية قبضتها كان عليك ياأخي إفادتي عن مغبة كتابة ذلك,, اني لبائسة كسيرة الفؤاد,, أما تعلم؟ وتقدمت صوب المنضدة فتناولت الخطاب ومزقته إربا إربا ثم حملت طفلها فألصقته بجنبها وهي تتمتم: كنت أظن ان بإمكاني التعبير عما يعتمل في وجداني من هم وكدر وبؤس! ثم مضت لا تلوي على شيء.