إذا كنا نقع في صورة متزايدة على كتب متخصصة في الفن الإسلامي، سواء في العربية أو في اللغات الأجنبية، فإن هذه المعالجات ذات الطابع التاريخي أو التحليلي أو النقدي تتقيد غالباً بدراسة الشأن الديني أو القدسي في هذه الصناعات الفنية المتباينة التي عرفتها المجتمعات الإسلامية في غير عصر وسلالة حاكمة وبلد، وهي قلما تولي الشأن الدنيوي أي اعتبار، إلا فيما ندر: كما لو أن المسلمين، صانعين ومقتنين، ما طلبوا الفن في حياتهم وسلوكاتهم، بل في معابدهم الفنية وحسب... وإذا كانتْ هذه المفارقة تجد أصولها في تعرفنا المضطرب على ما كانت عليه الصناعات الفنية القديمة، فإن ما نسميه ب"التراث" لم يعرف الاضطراب عينه، فكتبه تحفل بالأخبار والطرائف والآراء عما يمكن تسميته ب"الفن الدنيوي الإسلامي"، ومنه هذا الكتاب. ان قراءة كتاب "الموشى ، أو الظرف والظرفاء" لأبي الطيب محمد بن إسحق بن يحيى الوشاء المتوفى في 325 ه - 937 م. تفيدنا في الوقوف في آن: على الشمائل والخصال، الخلقية تحديداً، المطلوبة في الظريف، وعلى المقتنيات المادية أو السلوكات والممارسات الفنية التي يلجأ اليها الظريف وتؤكده في ظرفه. ولكن من هو الوشاء بداية؟ هو، حسبما يفيد الأسم، وشَّاء، أي المعني بفن التوشية. وقد عرفنا هذا التقليد فيما مضى، إذ كان يتم إلحاق اسم الصناعة بالصانع، مثل قطبة "المحرر" والبوزجاني "المهندس" وغيره. غير اننا لا نملك الشيء الكثير عن سيرته، وما كتبه عنه صاحب "الفهرست" لا يتعدى السطرين، عدا أن الوشاء لم يذكر في كتبه - على كثرتها - ترجمة له، مثلما كانت عليه العادة في عصره، ولم يذكرها بالمقابل أي من مترجميه. ولم يصل الينا من كتبه الكثيرة التى ذكرها ابن النديم غير كتابين: "الموشى" وكتاب "تفريج الكرب والوصول إلى الفرج". فماذا عن "الموشى"، موضوع حديثنا؟ خصال "الظريف" الجمالية ينقسم الكتاب إلى جزئين بأبواب كثيرة، ويتناول أموراً متصلة بحياة الظرفاء، ما دفع كرم البستاني، أحد محققين الكتاب الأوائل، إلى الاعتقاد بأن الوشَّاء بغدادي، نظراً لما "ذكره من أخبار الظرفاء والظريفات ومن أخبار العشاق والغادرات والغادرين ومن عادات المجتمع العباسي وتصرفاته"، على ما يقول في تقديم الكتاب. فمن هم الظرفاء؟ يتبين لنا من مراجعة هذا الكتاب في تحقيق آخر لعبدالأمير علي مهنا أن الوشاء يتحدث عن فئة اجتماعية، بل عن خصال تتوافر في فئات من الناس، تشترك فيما بينها في ما تطلبه من قيم وسلوكات ومظاهر. أي أن "الظرفاء" لا يعينون طبقة أو شريحة اجتماعية، بل فئة "منتخبة" من أفراد المجتمع، بينهم الجارية والشاعر والغني والفقير وغيرهم. وهذا يعني أننا أمام أفراد طلبوا إنشاء جماعة وفق حسابات واقعة في السامي والرقيق واللطيف والفصيح من القيم والسلوكات والتعابير، ما يشكل بالتالي المواصفات الجمالية للإنسان، على أن الجمال يعين في هذه الحالة، جمال النفس والعقل والجسد. وهو ما نلقاه في التعريف التالي: "روي عن محمد بن سيرين أنه قال: الظرف مشتق من الفطنة. وقال غيره: الظرف حسن الوجه والهيئة. وقال بعض المشيخة: الظريف الذي قد تأدب، وأخذ من كل العلوم، فصار وعاء لها، فهو ظرف". ونحن نتبين في غير موقع من الكتاب أن الوشاء يتحدث عن ارتباط الظرف بالغنى، مثل التنعم بنفيس الثياب والجواهر وغيرها، ولكن من دون أن يقصره عليه، ذلك أن الغني ليس ظريفاً حكماً، عدا "أن الظرف بذي التقلل مليح" . ويتضح لنا بالتالي أن مواصفات الظرف تتعدى الشأن الطبقي، وشؤون الاقتناء، وتتحدد بأمور واقعة في الخلق والأدب، قبل التملك والزي والتصرف. وهو ما يقوله الوشاء في صورة أوضح في موضع آخر من الكتاب: "ليس بالغنى ما يُدخل أهل الجهالة في الوصف، ولا بالفقر ما يخرج أهل الأدب من الظرف. ومع ذلك ينعم الكتاب، ولا سيما في قسمه الأخير، بمادة واسعة تتصل بمقتنيات الظرفاء وسلوكاتهم، مما "استحسنوه من الزي والطيب والثياب والهدايا والطعام والشراب"، ولهم فيه "حد محدود مستحسن معلوم". هكذا نتعرف في عدة فصول على زي الظرفاء والظريفات ومقتنياتهم وسلوكاتهم، كما يوضحها الوشاء: "قد أحببتُ أن أختم كتابنا هذا بأشياء يستحسنها الظرفاء، ويميل إليها الأدباء، مما يُكتبُ على الأقلام، من النتف ومليح المقطعات والظرف.وأنا ذاكرٌ في ذلك بعض ما استحسنتُهُ، وملحا مما استرققتُه، إن شاء الله، قد جمعنا في هذا الفصل أشياء من مستظرفات الأشعار، ومتحسنِ الأخبار، ومتنخلِ منتقى الأبيات، ومنتخبِ المقطعات، ونوادرِ الأمثال، وملحِ الكلام الذي يجوز كتابتُه على الفصوص والتفاح، والقناني والأقداح، وفي ذيول الأقمصة والأعلام، وطرز الأردية والكمام، والقلانس، والكرازن كرزن: التاج المرصع بالذهب والجوهر، والعصائب، والوقايات ضرب من الستور، وعلى المناديل والوسائد والمخاد والمقاعد، والمناص منصة: ما يرفع من أمكنة يقعد أو يوقف فيها، والكرسي ترفع عليه العروس في جلائها والحلل، والأسرة والتكك، والرفارف ووجوه المستنظرات المترقبات، وفي المجالس والإيوانات، وصدور البيوت والقباب، وعلى الستور والأبواب، والنعال السندية، والخفف الزنانية، وعلى الجباه والطرر، وعلى الخدود بالغالية والعنبر، وعلى الوطأة لعلها من توابع الملابس أو الفرش والوشاح، وفي تفليج الأترج والتفاح، ومما يعدل به من تنضيد الورد والياسمين، ويُكتبُ على أواني الذهب والفضة، والسكاكين، وقضبان الخيزران المدهونة، والمخاد الصينية، والمراوح، والمذاب مذبة: ما يدفع به الذباب، والعيدان، والمضارب، والطبول، والمعازف، والنايات، والأقلام، والدنانير، والدراهم، وجعلنا ذلك أبواباً مبوبة، وحدوداً مبينة، لتقف على أصولها، وتتبين حسن فصولها". ان قراءة هذا القسم من الكتاب تفيدنا في غير أمر، سيما وأن كتب التراث المتوافرة لا تتحدث إلا فيما ندر عن الجانب الفني من المصنوعات. تفيدنا في قراءة انتروبولوجية واجتماعية بطبيعة الحال، فنتبين ما كان عليه هذا المجتمع، العباسي من دون شك، في أمر العلاقات بين الجنسين، حيث يتخذ الثوب أو الخف أو الخاتم دور إبلاغ لأمور الغرام بينهما" أو نتبين ما بلغه هذا المجتمع من تفنن في إنتاج هداياه أو مظاهر سلطته، أو أمر مصنوعاته، فنجدها شديدة التنوع والتخصص في آن معاً. ففي مجال الألبسة نلحظ وجود أنواع بينة، ذات وظائف محددة: مثل الأقمصة والأعلام والأردية والكمام والقلانس والكرازن والعصائب والطرر والوطأة والوشاح وغيرها. وفي مجال المتاع والأثاث المنزلي نلحظ وجود المنتجات التالية: الوسائد والمخاد والمقاعد والمناص والحلل والأسرة والتكك والرفارف ووجوه المستنظرات والمجالس والإيوانات وصدور البيوت والقباب والستور والأبواب وغيرها. وفي مجال الأدوات الموسيقية: العيدان والمضارب والطبول والمعازف والنايات ... وفي مجال الأواني: أواني الفضة والذهب والسكاكين والقناني والأقداح وقضبان الخيزران والمراوح والمذاب وغيرها. يمكننا أن نعدد هذه القوائم النعال والخفاف ...، أو ان نضع قوائم أخرى نقف فيها، على سبيل المثال، على المصادر المختلفة لهذه المنتجات، وقد عرض الوشَّاءُ لأصولها: فالنعالُ سندية، والخفاف زنانية، والمخاد صينية، وغيرها من المنتجات المعروفة بأصولها الفارسية على سبيل المثال: الكرازن والطرز والقلانس وغيرها. ونتمكن من وضع هذه القوائم انطلاقاً من النص، أي من دون رؤيتها. ومع ذلك يمكننا أن نتحقق من أن للأقمصةِ والأعلامِ "ذيولاً"، وللأرديةِ والكمامِ "طرزاً"، أي وظائف فنية مختلفة. ما يعنينا من هذا العرض السريع هو تبينُ درجات التَّطَلُّبِ الإجتماعي والفني في هذه المجتمعات في إنتاجها أو استجلابها لهذه المصنوعات عدا أن الوشاء أفاد ايضاً أنه لا يعرض سوى "أشياء" وحسب منها. لا بل يمكننا القول ان الكاتب لا يعرض لنا، على ما قاله، سوى الأشياء التي "يستحسنُها الظرفاءُ ويميلُ إليها الأدباءُ". فماذا عن "فنية" هذه المنتجات؟ كتابات متنوعة اكتفى الوشاء، على ما قاله، بذكرِ منتخبات من الأشعار مما كان الظرفاء يكتبونه على ألبستِهم ومتاعِهم" أي أن قراءة هذه الصفحات تمدنا ببعض المعلومات والأخبار، وإن كانت لا تمكننا من معرفة أسرار هذه الصناعات من ناحية أشكالها الفنية، أو طرق صناعتها، أو منتجيها أنفسهم. فنحن نتبين، بداية، أنواعاً مختلفة من الطرق الفنية في ما تقوله هذه الصفحات على قِلَّتِه: - النقش، وذلك على المواد الصلبة طبعاً، مثل: الفصوص والخواتيم وغيرها: "كان الحسن بن وهب تعشق جارية يقال لها ناعم، فنكس اسمها ونقش على خاتمه: معان، وذكر ذلك في أبيات يقول فيها: "نقشتُ معاناً على خاتمي لكيما أعانُ على ظالمي كذا اسمُ من هامَ قلبي به وأصبحَ في حالة الهائمِ نَكَستُ الهجاء فأعلنتُه بطرفي ليخفى على الحازمِ". وقد يتخذُ هذا النقش شكلاً معمارياً في بعض الأحيان، إذ يفيدنا الوشاء على سبيل المثال: "أخبرني من قرأَ على بابِ دارٍ بإِصْطَخْرَ منقوشاً بحجر: أرى الدار من بعدِ الحبيب ولا أرى حبيبي مع الباقين في عرصة الدار ِ فيا عجباً إذ فارقَ الجارُ جارَه". كما نقع أيضاً على كتابة بالورود، كما في هذا المثال: "أخبرني بعض شيوخنا من الكتاب بالعسكر قال: قرأتُ على طبقين أهداهما بعض الفرس إلى بعض الكتاب قد نضد بأنواع من السوسن والياسمين والشقائق والرياحين على أحدهما مكتوب: شادن راح نحو سرحة ماء مسرعا وجنتاه كالتفاح ورد الماء ثم راح وقد أص دره الماء في غلالة راح". - الكتابة على الألبسة من دون أن يفيدنا الكتاب ما إذا كان المقصود بها شكلا خطياً بلون واحد أم بعدة ألوان، موضوعاً على القماش أو داخلاً في نسيجه. إلا أنه يخبرنا في بعض المواضع بأن الخطوط مكتوبة بالذهب أو بالفضة، أي انها كانت مضافة على القمصان والأوشحة والأكمام وخلافها" وفي مواضع أخرى أنها منسوجة في الأثواب نفسها، كما في هذا المثال: "أخبرني بعض أصحابنا قال: أخبرني من رأى في ذيل جارية الحسن ابن قارن منسوجاً في العلم رسم الثوب ورقمه: أحسنُ ما قد خلق الل ه وما لم يخلقه شكوى فتاة وفتى يعشقها وتعشقه نار الهوى دانية تحرقها وتحرقه يا حبذا الحب إذا دام ودامت حرقه". أو في هذا المثال: "قال علي بن الجهم: رأيتُ في منطقة واجد الكوفية زناراً منسوجاً مكتوباً فيه: لستُ أدري أطالَ ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لإستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلاً". - الكتابة بالألوان، كما في هذه الأمثال: "قال علي بن الجهم: رأيت في صدر قبة مكتوباً بألوان فصوص منضدة: لا تطمع النفس في السلو إذا اأحببت حتى تذيبها كمدا من لم يذق لوعة الصدود ولم يصبر على الذل والشقا أبدا فذاك مستطرف الفؤاد يرى في كل يوم أحبابه جددا أو في هذا المثال: "أخبرني بعض الكتاب أنه قرأ على صينية بين يدي الحسن بن وهب مفصلة بالفصوص بألوان شتى: من كان لا يزعمني عاشقا أحضرته أوضح برهان إني على رطلين أسقاهما روح في أثواب سكران وكنت لا أسكر من تسعة يتبعها رطل ورطلان فصار لي من غمرات الهوى والسكر سكران عجيبان". وماذا عن المنتخبات الشعرية نفسها؟ ألا تفيدنا في تبين وجوه من هذا الفن؟ نقع في هذه الأبيات على معان دينية، إلا أنها قليلة، سيما وان الوشاء طلب من هذه الفنون ما مال إليه الظرفاء. من هذه المعاني، هذه الأبيات: أنَا للهِ، وبالله أنا، أنا، واللهِ، مُقِرٌ بالفَنا أو: حبُّ علي بن أبي طالب فرضٌ على الشاهد والغائبِ أو: آفةُ عقلي بصري وله عقلي نظري نتبين في هذه الأبيات شهادات دينية يصرح فيها حامل الخاتم وقد استقينا من هذا الفصل هذه الأبيات بمعتقداته الدينية، أي بما هو جائز اجتماعياً وهي عادة لا تزال رائجة حتى أيامنا هذه في غير مجتمع عربي، سواء أكان ذلك على واجهات العمارات أو في الكتابات الحائطية أو كتابة بعض الأعلانات. لا بل نقع في هذه الأبيات أحياناً على أقوال تفيد عن هذه العلاقة "الإسلامية" بالبصر وفنونه مثل البيت الذي أوردناه أعلاه، والذي يتحدث عن كون البصر "آفة" العقل، وهو قول نجد له مترادفات عديدة في الكتابات القديمة. وهي تشير إلى "أغلاط" البصر، حيث ترى الشكل المستقيم أو المجذاف في الماء معوجاً ونجد هذا المثل مثل غيره في "رسائل" أخوان الصفاء وكتابات الحسن بن الهيثم. ليس المجال متاحاً، هنا، للتوقف أمام كيفيات التعامل والتفكر بمسألة البصر والمبصرات، إلا أننا نشير إلى وقوعنا على آراء كانت تتبين، ضمن إطار علم البصريات الناشئ، المبصرات وما يعتورها تبعاً للبعد أو القرب من أحوال متغيرة مما لا يمكن الركون إليه. لكننا نجد ايضاً في نشوء هذا العلم، وفي النهج الذي سلكه علماؤه أي الحذر من المبصرات ومن قوى حاسة البصر ما كانت تقوم عليه الفنون والعلوم الإسلامية في إشكاليتها الدينية المتصلة بالصورة، والتي نسميها ب"الامتناع العقيدي للرؤية" في الإسلام. وماذا عن "دنيوية" هذا الفن بالتالي