رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    بوتين: روسيا ستُدخل الصاروخ الباليستي الجديد «أوريشنيك» في القتال    روبن نيفيز يُحدد موعد عودته    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    الأهلي ينتصر على الفيحاء بهدف رياض محرز    دوري روشن: التعادل الايجابي يحسم مواجهة الشباب والاخدود    القبض على شخصين بتبوك لترويجهما مادتي الحشيش والإمفيتامين المخدرتين    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    حلول ذكية لأزمة المواقف    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أ,د, عبدالرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي *
إبل المتنبي
نشر في الجزيرة يوم 16 - 07 - 2000

ارتبط الجمل العربي منذ آلاف السنين بحياة العربي وبيئته وتاريخه، فقد كان للعرب وخصوصا عرب الجزيرة العربية السبق بين الأمم الأخرى في استئناس الجمل العربي، واستخدامه في تنقلاتهم وترحالهم، من مكان لآخر كما استخدموه في حروبهم، وغزواتهم، وحمل أمتعتهم ونسائهم وسبيهم، ونقل تجارتهم, واضافة لذلك فقد استفاد العرب من ابلهم في طعامهم وشرابهم ولباسهم، وفي صنع خيامهم وحاجاتهم الأخرى من وبره, وقد شاءت قدرة الخالق عز وجل ان يكون هذا الحيوان مرتبطا ومتزامنا مع وجود العربي ذاته، وان يعيش أحدهما مع الآخر في بيئة صحراوية قاسية واحدة ذات مناخ متطرف بحرارته وبرودته، وقلة موارده المائية والغذائية، ولذا فالانسان العربي الأصيل، مثل بعيره العربي الأصيل، يمتلك كل منهما صفات ومميزات كثيرة مشتركة بينهما.
ويطلق على الجمال أسماء عديدة في اللغة العربية، منها: الابل، والشول، والعشار، والنوق، والأينُق، والنياق, ويقول الدميري 1398ه 1978م : ان البعير سمي بعيرا، لأنه يبعر,, وهو اسم يقع على الذكر والأنثى، وهو من الابل بمنزلة الانسان من الناس، فالجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والقعود بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية, وحكي عن بعض العرب قولهم: صرعني بعيري: أي ناقتي، وشربت من لبن بعيري, وانما يقال له بعيرا اذا أجذع، والجمع: أبعرة، وأباعر وبعران, اضافة لذلك فللإبل أسماء عديدة من ناحية السن العمر والسمن والضعف والقوة والجري والشكل والعدد,, إلخ.
ويتبع الجمل قبيلة الحبليات، وتحت قبيلة الفقاريات، وهي احدى رتب طائفة الحيوانات الثديية اللبونة ، وهذه الرتبة هي رتبة مشقوقات الحافر ويندرج البعير تحت رتبة التيلوبودا ، والتي تتميز بان الأصبعين الثالث والرابع في كل من اليد والقدم منها متساويتان، وتكون الأصابع الأخرى غائبة كما في الجمل أو أثرية في أنواع حيوانية أخرى, وعائلة الجمال Camelidae يتبعها جنسان، هما جنس اللاما، وجنس الابل, ويوجد في عصرنا الحالي نوعان من الجمال، هما الجمل العربي ذو السنام الواحد، وتعرف بالابل وحيدة السنام, والاسم العلمي للجمل العربي هو Camelius dromedarius والجمل ذو السنامين، وتعرف بالابل ثنائية السنام، واسم الجمل ذو السنامين هو: Camelius bacterianus ويعد هذان النوعان أكبر حيوانات عائلة الجمال التي تشمل بالاضافة إليها حيوانات الفيكوناس ، والجواناكوس ، والألباكاس .
ويقطن الجمل ذو السنامين صحارى وسهول منغوليا وتركستان الصينية، أما الجمل العربي ذو السنام الواحد فيوجد تقريبا في جميع المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية في كل من قارتي آسيا وافريقيا, وجنين كلا النوعين يكون له في بداية تكوينه في رحم أمه سنامان جنينيان، يبقيان ويكبران في الجمل ذي السنامين، ولكنهما يلتحمان أثناء تطور الجمل ذي السنام الواحد، ليكونا سناما واحدا فقط.
ويتزاوج الجمل العربي مع الجمل ذي السنامين وينتج عن هذا التزاوج جمال ذات سنام واحد يطلق عليها الابل البختية.
ومن وجهة النظر العلمية البحتة لا يوجد الا نوع واحد للجمل العربي ولكن وكما هو معروف علميا أيضا، فان البيئة التي يعيش فيها الحيوان تلعب دورا مهما في تشكيل هيئة ذلك الحيوان, والجمال العربية متشابهة في أشكالها وألوانها، مع وجود فروقات بسيطة تنحصر في الحجم وبعض التحورات في أجزاء جسم الحيوان.
ويتميز الجمل العربي بقدرته على تحمل الظروف القاسية، وتحمل العطش لأيام عديدة، والسير بدون شرب لمسافات طويلة، وقدرته على السير على الرمال وبخفة رغم حجمه الضخم، لوجود تحورات مختلفة في تراكيب أعضاء جسمه لا يسعنا المقام للتطرق إليها.
لقد تطرق شاعرنا أبو الطيب المتنبي الى الابل في شعره، فأشار الى مشيها وعدوها وصبرها، وقطعها للمسافات الشاسعة وسلوكها، وعلاقتها بالخيل، اضافة الى انه استخدمها في شعره كرمز:
قال أبو الطيب في قصيدة يذكر بها خروجه من مصر وما لقي ويهجو كافورا:
ألا كل ماشية الخيزلى
فدا كل ما شية الهيدبى
وكل نجاةٍ بجاوية
خنوف وما بي حسن المِشَى
ولكنهن حبال الحياة
وكيد العداة وميط الأذى
ضربت بها التيه ضرب القما
ر إما لهذا وإما لذا
اذا فزعت قدّمتها الجياد
وبيض السيوف وسمر القنا
فمرَّت بنخل وفي ركبها
عن العالمين وعنه غنى
وأمست تُخيّرنا بالنقا
ب وادي المياه ووادي القرى
وقلنا لها أين أرض العراق
فقالت ونحن بتر بان: ها
يقول العكبري في شرح البيت الأول: الخيزلى: مشية فيها استرخاء، من مشية النساء, والهيدبى: مشية فيها سرعة، من مشي الابل، وهو من قولهم: أهدب الظليم ذكر النعام : اذا أسرع, والمعنى: يريد: فدت كل امرأة تمشي الخيزلى كل ناقة تمشي الهيدبى, يريد أنه ليس من أهل الغزل، ولا يميل الى النساء، وانما هو من أهل السفر يحب مشي الجمال, وقال قوم: الخيزلى والخوزلى والخوزرى والخيزرى : هي مشية فيها تفكك, والهيدبى بالدال والذال : هو من مشي الخيل, ويقول العكبري عن البيت الثاني: النجاة: يريد الناجية التي تنجي صاحبها، وهي الناقة السريعة, وبجاوية: منسوبة الى بجاوة، وهي قبيلة من البربر ينسب إليها النوق البجاويات والنجاة: اسم مختص بالأنثى دون الذكر.
وقوله خنوف ، يقال: خنف البعير يخنف خنافا: اذا سار فقلب خف يده الى وحشيه, وناقة خنوف, والمعنى: يقول: لا أحب مشي النساء، ولا لي إليهن ميل، وانما أحب كل ناقة سريعة السير والمشي، هذه صفتها, وانما قال بجاوية خصهم: لأنهم يتطاردون على النوق في الحروب وغيرها، وكانت النوق تنعطف معهم كيفما أرادوا، فإذا وقعت الحربة في رميّة عطف الناقة إليها فأخذها، وان وقعت في غير رميّة عطفها إليها فأخذها، فكانت نوقهم تنعطف معهم حيث أرادوا، فلهذا خصهم, ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يريد ان هذه النوق توصل الى الحياة، وتكيد الاعداء، وتدفع الأذى، أي تزيله لأنها تخرجك من المهالك الى النجاة، فبهن تكاد الأعداء، ويدفع شرهم.
يقول شاعرنا المتنبي في أبياته الثلاثة السابقة: أنا لا أحب النساء ولا أحب المرأة التي تمشي مشية فيها تفكك واسترخاء وتبختر ودلال وغنج، وانما أفضل وأحب مشية ناقة تسير بصاحبها مسرعة تقطع به الفيافي والقفار، لأن هناك فرقا بين المشيتين، فمشية الخيزلى عند المرأة فيها تصنع وخديعة واغراء، أما مشية الهيدبى عند الناقة ففيها سلامة لصاحبها من غول الطريق، وفيها سرعة لايصاله لهدفه، فالنوق في هدبتها هي حبال الحياة ومنجاة لصاحبها ويقول العكبري في شرح البيت الرابع: التيه: الأرض البعيدة التي يتاه فيها لبُعدها، وهي هنا تيه بني اسرائيل، وهو الذي بين القلزم البحر الأحمر وأيلة خليج العقبة العقبة ، ويسمى أيضا: بطن نخل، وعليه أخذ المتنبي لما هرب من مصر الى العراق والمعنى: سلكت بهذه الناقة هذه المسالك المخوفة، إما للنجاة وإما للمخاف، اما ان أفوز وأنجو، واما ان اهلك فأستريح والاشارة الى الفوز والهلاك ويقول العكبري عن البيت الخامس: اذا فزعت هذه الناقة تقدمتها الخيل الجياد، لأنهم كانوا يجنبون الخيل، ويركبون الابل، واذا لاقوا الأعداء ركبوا الخيل.
ونسب الفزع إليها على حذف المضاف: أي فزع راكبها, وقوله: بيض السيوف وسمر القنا من المقابلة الجيدة، يريد الدفع عنها بهذه السيوف والرماح ويقول العكبري عن البيت السادس: المعنى: يريد: مرت هذه الابل بنخل، وهو ماء معروف، وفي ركبها يعني ركبانها يريد نفسه وأصحابه عن هذا الماء وعن كل من في الدنيا غنى، لأنهم اكتفوا بما عندهم من الجلد والحزامة عن الماء وعن غيره, ويقول العكبري عن البيت السابع: المعنى: إنا لما وصلنا هذا الموضع رأينا عنده طريقين: طريقا الى وادي القرى، وطريقا الى وادي المياه, قدرنا السير الى أحدهما: فجعل هذا التقدير كالتخيير من الابل، كأن الابل خيّرتهم: ان شئتم سلكتم هذا وان شئتم هذا، وهذا على المجاز والاتساع, وقيل في التخيير : تأويلان: أحدهما، أن الهوادي من الخيل والإبل إذا وصلت مفرق طريقين تلتفت إليهما لتؤذن بالحث على سلوك احداهما، وهذا كأنه تخيير والآخر: أنه على سبيل المجاز ويقول العكبري عن البيت الثامن: المعنى: قال ابن جني: قلنا للابل ونحن بهذه الأرض المسماة بتُربان: وهي من أرض العراق، فقالت: ها هي هذه وهذا كله مجاز كالذي قبله.
بعد ما بين لنا شاعرنا في أبياته الثلاثة الأولى سبب تفضيله لناقة تمشي الهيدبى على امرأة تمشي الخيزلى، بيّن في أبياته من البيت الرابع وحتى البيت الثامن ما فعلت له ناقته، فقد سار بتلك الناقة البجاوية التي أوصافها كما ذكر في تلك المسالك الوعرة والمهلكة والمخيفة ومآله على حالتين : اما أن ينجو ويسلم أو يأتيه قدره فيهلك، كلاعب القمار، اما ان يكسب أو يخسر، وأضاف الشاعر ما كان يفعله هو وأصحابه ساعة الخطر، وما كانت تفعله الابل والخيل، وكيف كانوا يستخدمونها على حسب الظروف وهم في مسيرهم.
لقد تطرق شاعرنا أبو الطيب المتنبي في أبياته السابقة الى عدة أمور تتعلق بالابل والخيل، فالابل كانت هي الوسيلة الفعالة لقطع المسافات الشاسعة حيث سار الشاعر وهو ومن معه على ظهورها من مصر الى العراق، أما خيلهم فكانوا يجنبونها في رحلتهم تلك الطويلة، ولكنهم كانوا اذا أحسوا بخوف أو بطارق سيطرقهم، قفزوا من على ظهور ابلهم الى ظهور خيولهم وسلوا سيوفهم ورفعوا رماحهم وتقدموا قافلة ابلهم.
يقول أبو سويلم 1403ه 1983م : روض عرب الجاهلية الابل، فكانت الصاحب والرفيق الذي لا يعرف الملل في رحلاتهم التي لا تنتهي، وعرفوا فيها خصائص تلائم بيئتهم الصحراوية، ورمالها الظائمة، وشمسها المحرقة فالله لم يخلق نعما خيرا من الابل، ان حملت أثقلت، وان سارت أبعدت، وان حلبت أروت، وان نحرت أشبعت وللابل قدرة فائقة على احتمال العطش، ومقاومة شمس الصحراء المحرقة، ورمالها المتهايلة التي تتحول إلى رمضاء ملتهبة وقت الهاجرة,, وقال النويري: وفي طبع الابل الاهتداء بالنجم ومعرفة الطرق، والغيرة والصولة والصبر على الحمل الثقيل وعلى العطش.
لقد سار أبو الطيب وأصحابه وهم على ظهور نوقهم من أرض مصر مرورا بصحاري سيناء المهلكة وصحاري الأردن، وصحراء النفوذ حتى وصلوا الى بتربان، فقالوا لابلهم: أين العراق؟ فقالت لهم: هاهي هذه,, فقد نجوتم.
ويقول الدقس 1395ه 1975م : كان العرب يتخذون الابل رواحل يركبونها ويحملون عليها الأمتعة والسلاح، أما الخيل فيجنبونها ادخارا لنشاطها وسرعتها في الغارة، وحفاظا لقوتها، حتى يحين وقت القتال، وحتى اذا كانوا على مقربة من القوم المقصودين بالغارة نزلوا عن الابل ولبسوا السلاح وركبوا الخيل.
قال أبو الطيب:
اذا فزعت قدمتها الجياد
وبيض السيوف وسمر القنا
وقال أبو الطيب أيضا في قصيدة يذكر فيها مسيره من مصر ويرثي فاتكا:
لا أبغض العيس لكني وقيت بها
قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
طردت من مصر أيديها بأرجلها
حتى مرقن بنا من جوش والعلم
تبرى لهن نعام الدو مسرجة
تعارض الجدل المرخاة باللجم
في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا
بما لقين رضا الأيسار بالزلم
تخدي الركاب بنا بيضا مشافرها
خضرا فراسنها في الرغل والينم
معكومة بسياط القوم نضربها
عن منبت العشب نبغى منبت الكرم
ما زلت أضحك إبلي كلما نظرت
الى من اختضبت أخفافها بدم
أسيرها بين أصنام أشاهدها
ولا أشاهد فيها عفة الصنم
يقول العكبري في شرح البيت الأول: العيس: الابل البيض, والمعنى: يقول: العيس لا أبغضها, يريد: ان اتعابها في السفر لم يكن بغضا لها مني ولكن أسافر عليها لأقي قلبي، وأحفظه من الحزن، وجسمي من السقم اذا غير الهواء والماء وسافر صح جسمه، وكذلك المحزون، يتنسم بروح الهواء، أو يصير الى مكان يسر بالاكرام فيه ويقول العكبري عن البيت الثاني: جوش والعلم: موضعان، وهما جبلان, ومرقن: شبهها بالسهم، لسرعة سيرها فاستعار لها المروق, والمعنى: يقول: لما خرجت من مصر، وأسرعت السير، وكانت الابل تعدو، فكأن أرجلها تطرد أيديها، وذلك ان اليد أمام الرجل، كالمطرودة أمام الطارد، وشبه خروجها من هذين المكانين بخروج السهم من الرمية، لسرعة سيرها, ويقول العكبري عن البيت الثالث: تبري: تعارض, والدو: الفلاة المستوية, يريد: تعارضها من جانبيها، وأراد بنعام الدو: الخيل شبهها بالنعام لسرعتها، ولعلو أعناقها واشرافها، تعارض أعناق الابل, والجدل: جمع جديل، وهي الأزمة والمعنى: تعارض نعام الدو، وهي الخيل لهن، يعني الخيل مسرجة أي في حال اسراجها، فتعارض أزمة العيس يلجمها، فتكون اللجم في اعناقها، كالأزمة على اعناق الابل، لعلوها واشرافها، فأعناق الخيل تعارض اعناق الابل, ويقول العكبري عن البيت الرابع: الأيسار: جمع، وهم الذين ينحرون الجزور، ويتقارعون عليها بالقداح، وهو شيء تفعله الجاهلية، وأحدهم: يسر والزلم: السهم, والمعنى: يقول: سرت من مصر في غلمة حملوا أرواحهم على الخطر، لبعد المسافة، وصعوبة الطريق، ورضوا بما يستقبلون من هلاك وغيره كما يرضى المقامر بما يخرج له من القداح.
لقد تطرق شاعرنا في أبياته السابقة الى الابل، والخيل، فذكر العيس والعيس من الابل هي الابل البيض مع شقرة، وهي من كرائم الابل، ووصف عدوها وسرعتها وتطرق أيضا الى تجنيب الخيل.
يقول الهواوي 1411ه 1991م : ان حركة البعير تختلف عن حركة غيره من الحيوانات الراكضة، فهو النوع الوحيد الذي يمشي على أربع، وكأنه يمشي على رجلين اثنتين، حيث تتحرك اليد والرجل الموجودة على أحد جانبي الجسم معا الى الأمام، ثم تتحركان معا أيضا الى الخلف، وهكذا بالتبادل مع اليد والرجل الموجودتين على الجانب الآخر, وهنا نتبين دقة شاعرنا عندما قال: طردت من مصر أيديها بأرجلها,, اضافة لما تقدم فان الجمل وان كان سريع العدو، الا انه يوجد من الحيوانات الثديية أنواع تفوقه في السرعة، ولكنه يفوقها جميعا بعدوه المستمر لمسافات طويلة.
ويقول العكبري في شرح البيت الخامس: خدت الناقة تخدي: أي أسرعت, والفراسن: جمع فرسن وهو للبعير بمنزلة الحافر للدابة، والرغل والينم: نبتان, والمعنى: يقول: الركاب تخدي بنا أي تسرع، ومشافرها بيض المشفر للبعير كالشفة للانسان ، لأنها تمنع من المرعى لشدة السير، وفراسنها خضر، لأنها تسير في هذين النبتين, ويقول العكبري عن البيت السادس: معكومة: مشدودة الأفواه, والمعنى: يقول: السياط تمنعها الاكل، لأن العكام هو الذي يشد به فم البعير لئلا يعض، فيقول: نحن نضربها عن المرعى، نبغي منبت الكرم، لأنه قصدنا.
نتبين من البيتين السابقين أن شاعرنا ومن كان معه كانوا في عجلة من أمرهم وربما خوفهم هو الذي دفعهم لذلك، ولهذا فهم كانوا يضربون ابلهم عن المرعى حتى تستمر في سيرها.
يقول غومث 1398ه 1978م المستشرق الأسباني تحت عنوان المشافر البيض والخفاف الخضر , تضمنت القصيدة التي أنشدها المتنبي في الكوفة عام 963م، ووصف فيها السرعة التي ترك بها مصر، بيتا رائعا من الشعر البيت الخامس , يريد ان يقول: انهم وقد أغذوا السير لم يتركوا الابل ترعى، فجف اللغام على أشداقها، وابيضت مشافرها، بينما اخضرت خفافها لكثرة ما وطئت من النبت، وهي تقطع الأودية والمروج, ان هذا البيت يقول غومث يمكن ان يكون رمزا لشعر المتنبي نفسه, لقد غذ الشاعر السير، عارم الرغبة، سريع الخطو، فاقد الصبر دائما، فجاز كل مروج عالم الشعر، ولم يستطع الحب ان يمسك به، واستأنى قليلا في دنيا الفخر الشعري، ليمضي محلقا وراء مجد أداته السيف، مجد سرعان ما تلاشى بعد ان أغرقه في أشد ألوان التشاؤم كآبة, وهكذا وصل شعره، بعد رحلة مريعة، مبيض المشافر، مخضر الخفاف، بعد ان استباحت قدماه مندفعا ألذ أعشاب البلاغة، والتفت بأحلى ما فيها.
ويقول العكبري في شرح البيت السابع: المعنى: يقول: ما زلت أسافر عليها الى من لا يستحق القصد اليه، فلو كانت الابل مما تضحك لضحكت، اذا نظرت من قصدته، استخفافا به، وفي الكلام محذوف يتم به المعنى تقديره: اختضبت أخفافها بدم في قصده، أو المسير اليه، وفيه تعريض ببعض أهل بغداد, ويقول العكبري عن البيت الثامن: أسيرها بمعنى أسير عليها، والأصنام : صور لا تعقل جماد، وعني بهذا ههنا قوما يطاعون، ويعظمون، وهم كالجماد والمعنى: يقول: أسير دابتي بين أصنام كالجماد مطاعين لا اهتزاز فيهم للكرم، ولا اريحية للجود، والصنم أفضل منهم، لأنهم ليست لهم عفة الصنم، لأن الصنم وان لم ينفع فهو غير موصوف بالفضائح والقبائح وهؤلاء لا يعفون عن منكر ولا قبيح.
لقد بين الشاعر في بيتيه السابقين ان الابل هي الوسيلة الناجعة للتنقل وقطع المسافات، ولكن ابل شاعرنا لم توصله الى ما كان يبحث عنه ويريده، بعد ما أسال دم أخفافها من كثرة سيره وتجواله عليها، وقد سار بها بين اناس كالأصنام لجهلهم وحقارتهم، ولهذا فلو كانت ابله تعقل لضحكت عليه بمليء أشداقها لجهله وعدم معرفته باهل زمانه.
يقول غومث 1398ه 1978م : يحكي المتنبي في قصيدة نفس القصيدة التي منها الأبيات السابقة قصة رجوعه من مصر، يجر أذيال الخيبة، ومروره ببغداد مشيرا، فيما يبدو الى القوي الغارق في الملذات المسرف في التأنق، الوزير المهلبي، وحاشيته من الأصدقاء عندما يقول: البيتان: السابع والثامن والحق ان كل ما نعرفه عن حياة المتنبي، يؤكد صدقه فيما يقول,,,, ويمكن ان يمر على ظهر راحلته، أمام أصنام عصره الفاسدة، وهو ينطوي على أكبر احتقار لها.
*الرياض كلية الملك خالد العسكرية
المراجع
1 أبو سويلم، أنور عليان، 1403ه 1983م.
الابل في الشعر الجاهلي .
دار العلوم للطباعة والنشر الرياض المملكة العربية السعودية.
2 الدقس، كامل سلامة، 1395ه 1975م
وصف الخيل في الشعر الجاهلي .
دار الكتب الثقافية الكويت.
3 الدميري، كمال الدين محمد بن موسى 1398ه 1978م.
حياة الحيوان الكبرى .
شركة مكتبة ومطبعة الحلبي وأولاده مصر.
4 العكبري، أبو البقاء.
شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، المسمى بالتبيان في شرح الديوان .
دار الفكر.
5 غومث، اميليوغرسيه، 1398ه 1978م.
مع شعراء الأندلس والمتنبي تعريب / الطار أحمد مكي.
دار المعارف القاهرة.
6 الهواوي، عبدالرحمن بن سعود، 1411ه 1991م.
الجمل العربي بين العلم والتراث .
مطابع الحرس الوطني الرياض المملكة العربية السعودية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.