لقد كان الظلاميون المتحمسون للطارئ غارقين إلى الأذقان في مستنقعات الفكر المادي، متذيلين لطائفة من نتائج التنوير الغربي من مثل: دارون فرويد ماركس سارتر وكانت المشاهد الثقافية تتداول مشاريع أولئك لاهية عن المبادرة والتأصيل, فشهوة الفكر أفاض عليها (دارون) من تخرصاته، وشهوة الفرج أغدق عليها (فرويد) من شبقياته، وشهوة البطن لوح بها (ماركس) من سرابياته، وشهوة العبث والفوضى سربها (سارتر) في إبداعاته وكتاباته، وظل التبعيون يوفضون إليها، ويتناحرون من اجلها، عبر ترسانات السلاح ومتاريس البلاغة، فصفيت الأجساد بالسلاح، وقضي على السمعة بالبلاغة، فكان أن أقمنا إلى جانب التمزق الجغرافي تمزقاً فكرياً، وتحققت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وما جنينا من حروبنا الساخنة والباردة إلا خيبات الأمل، وما عدنا من رهاناتنا إلا بالخسارة، وفيما نحن نتصارع في سبيل الطوارئ، تهاوت قلاعها الورقية، وذلك حين زيف العلم (النظرية القردية)، وكذبت المعامل والمختبرات (النظرية الجنسية)، وهدم التجريب (النظرية الماركسية)، ومجّت الفطر السليمة (النظرية الوجودية) وبقي منها ما استلبته من علم صريح ومنقول صحيح، وانفض سامر القوم، كما الحشرات، حين تخسف عليها جحورها, ولما انكشف أمر المنتجين، وتأذى المستهلكون من تداول تلك الرهانات الخاسرة، اخذت مطابع المسكوكات المزورة تغيّر من أشكال عملتها وألوانها, كان (الاستعمار)، ثم كان (النظام العالمي الجديد)، ثم كانت (العولمة), وفيما بين ذلك اطلت علينا المؤسسات الثقافية الغربية بفيض من المذاهب والظواهر والقضايا والأشخاص, سمعنا ب(ت,س,إليوت) الذي ملأ دنيانا خصاما حول شوارده، وتهافت عليه أساطين الحداثة، حتى لقد كان فعل (الأرض اليباب) فوق ما فعلته السينية للبحتري, واقرؤوا عنها وعنه إن شئتم (سيرة حياته) لبيتر اكرويد, وكتاب (الأرض اليباب) لعبدالواحد لؤلؤة, وكتاب (إليوت وأثره على عبدالصبور والسياب) لمحمد شاهين، وجاءت (الداروينية) فأوقعت في حبائلها كما لعاب العناكب (شبلي شميل) الذي جعلها متكأً لإلحاده و(اسماعيل مظهر) الذي استمد منها مادياته، وتسربت (الوجودية) فاستخفت أنيس منصور، ومن قبله عبدالرحمن بدوي، الذي عدَّ نفسه وجودياً وترجم لها في (موسوعة الفلاسفة)، بوصفه الوجودي العربي, وجاءت (الوضعية) فاستفزت زكي نجيب محمود، حيث عوّل على (العقل) و(العلم التجريبي) كمصدرين للمعرفة، واضعا (الدين) و(الخرافة) بإزائهما تمشيا مع (كونت) في تصوره لمراحل التفكير البشري الثلاث: الدينية. والميتافيزيقية. والعلمية, أي: الوضعية. وتولى كل مفكر وأديب عربي مفكرا أو مذهبا من الغرب, ومن يتعقب المشهد الثقافي لا يعدم المذهب (العقلي) و(الميتافيزيقي) و(الروحي) و(التجريبي) و(الطبيعي و(الحسي) و(الحدسي) و(الوصفي) و(الوجداني) و(البراجماتي) و(الظاهراتي), كما لا يعدم المستجد من الأفكار كفكرة: (القيم) و(الحرية) و(الجوهر) و(الديالكتيك) و(الصيرورة) و(الكم) و(الكيف) و(المادة) و(العلية) و(الزمان) و(المكان) و(الوجود) و(الماهية) و(الالوهية) و(المعرفية), وكل هذه المذاهب والأفكار لها مروجوها ممن يعيها وممن لا يعيها, وبعد العمل والنصب الهبائي المنثور حول ما سبق، أطلت علينا ثقافة الغرب على المستوى الأدبي المؤدلج، (بالبنيوية) و(الحداثة) وما تلاهما من بعديات وتحولات ك(التحويلية) و(التفكيكية) و(ما بعد الحداثة)، فكان من بين أبناء العروبة من تصور نفسه ابن بجدتها وفارسها المغوار، وحين أحيط بجهودهم لم يقلب أحد منهم كفيه على ما انفق، وإنما بحثوا عن خدعة أخرى لينفقوا في سبيلها فوق ما انفقوا من قبل، ثم تكون عليهم حسرة ويغلبون. دُرِس الشعر الجاهلي بنيويا فجيء بالمضحكات، واقرؤوا إن شئتم هلاميات (كمال أبوديب) في كتابه (الرؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي)، وقرئ الذكر الحكيم بوصفه نصا متأنسناً من خلال لغته وتاريخيته فجيء بالمبكيات، واقرؤوا إن شئتم مقترفات نصرحامد أبوزيد في عدد من كتبه وفي المثير منها بالذات، وقرئت قصيدتا (أشجان يمانية) للمقالح و(زهرة الكيمياء) لأدونيس، اعتمد الأول المنهج التشريحي واعتمد الآخر المنهج التوزيعي فتحقق العبث بالجهد والوقت، فقد خصت كل قصيدة بكتاب ينيف على الثلاثمائة صفحة، لم يقولا في النهاية شيئا يتكافأ مع الجهد والوقت المبذولين، ومن متطلبات تلك المناهج إماتة أحد الأطراف، ومن ثم أميت المنتج لتموت قدسية الإنتاج، ولتستبين جذور هذه الظاهرة المادية اقرؤوا كتاب (موت الإنسان) لعبدالرزاق الدوَّاي، والنقد الجنائزي بدأ بإعلان نيتشة عن موت الإله ثم تعاقبت الوفيات (مات الإنسان) و(مات النحو) ومات (النقد الأدبي), والمتعالقون مع تلك المذاهب والمناهج والآليات واساليب الدرس العبثي المتزيد يجهلون جذورها الفكرية وحواضنها المادية ومن ثم يعرضون انفسهم للاتهام، حتى لقد قال عبدالصبور شاهين عن احد المأخوذين بهذه المستجدات: (لا يفهم في السياق اللغوي,, ولا يعرف ما معنى السياق اللغوي وإنما عرفها بطريق قراءات سطحية) (مجلة المجلة العدد (1055) والمقول عنه هذا الكلام استاذ في اللغة، ألهاه عن جد التحصيل احتفاليته بالذكرى السبعينية لصاحب النظرية التحويلية, إن إشكالية المشهد الثقافي اكتظاظه بالمتعالمين والأدعياء والمتنافخين، الذين يذبون عن عواجيز الحضارة المادية، ويمكنون لها على حساب مفردات حضارتهم، وهم لا يأخذون من هذه الحضارة ما نحن بأمس الحاجة إليه من علم تجريبي وصناعة: سلمية وحربية واجهزة متعددة المنافع، وممارستهم تقتصر على التقليد والجلب للفكر والأدب دون وعي ودون علم, لقد تداولت مشاهدنا العربية ببلاهة وصفاقة معطيات مدارس فلسفية وسياسية وأدبية واقتصادية وتربوية, وعرف المتعالقون من دون وعي من اساطين الغرب (بالكون) و(هوبز) و(اسبينوزا) و(لوك) و(روسو) و(كانت) و(جيمس) و(برادلي) و(رسل) في مقابل جهلهم بصنّاع الحضارة العربية من علماء الإسلام ومفكريه, وحين استنفدت تلك المذاهب وهذه المناهج وأولئك الرموز كل الاقنعة، لاحت في الافق بوارق مذاهب وقضايا وظواهر ورموز ليسوا بأحسن مما سلف، فتلقفها البعض، وقعد عنها آخرون، فكان ان انشق التبعيون على انفسهم، إذ لم يقض البعض وطره مما سلف، وتجاوبت بعض الاصداء لهذا التلقف وذلك الرفض، ونهض في كل صقع من يحيي ويميت، ويرفع ويخفض، وفي الضجة المفتعلة سحب الذواقون أيديهم مما سلف ووضعوها بالطريقة البلهاء ذاتها في ركاب من خلف، وما زالت اجواؤنا العربية والإسلامية تنتابها رياح التلوث، وتفيض بالأدعياء ومغذي اللقطاء، ومن أبان لغزية النصح قيل عنه: جاهل متخلف، سيىء الظن والفهم، معطوب الملكة، مزور الشهادة، يخطئ، ويصر على الخطأ، ويجد من يقرّه عليه، وماذا عليهم لو أن قلوبهم رقت ووجوههم انطلقت وكلماتهم طابت لمثل هذا الجاهل المعطوب وأفاضوا عليه مما علمهم أسيادهم؟. ومع التخلية أو التخلي المتوقع من كل مقلد، سينجز المصممون والمخرجون أزياء أخرى، فتلقي الدهماء ما بأيديها، وتوفض إلى ما جدَّ من نُصُب, قد تسألني: متى يكون ذلك؟ وأقول لك: لعل الاستبدال يكون قريبا, ولكن من يقطع بلحظة تحرك الدمى على مسرح العرائس وخيوطها بيد غيره؟ إن فيضا من الاتجاهات والمذاهب والمفردات والتعابير والمصطلحات يلتقطها المتسكعون من صعاليك الكتابة الصحفية الاستهلاكية والفارغون من حملة الشهادات، فيراهنون على أنها نهاية التاريخ، ومن ثم يريقون مياههم عندما يبدو لهم سراب القيعان. لقد طاف على رياض الفكر والأدب طائف من عذابات التبعية، فأصبح العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان، وصدق الله (ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين). وفي سياق البعديات والتحولات نفاجأ بمصطلحات جديدة ضريعية لا تسمن ولا تغني، لا تسد خلة ولا تقضي حاجة، ولو أننا استقبلناها في منطقة وسط، ورددناها الى مقاييس الحاجة وموازين القيم، لما كنا كما نحن، تقضى الأمور بغيابنا، ولا نستأمر عند حضورنا، ومن المفيد أن نسمع المستجدات وأن نعيها، وأن نسيطر عليها، وأن ننتقي خير ما فيها، وليس من الحكمة أن نردها على أعقابها، ولا أن نطرد من ساحتنا كل ما سلف ونقبلها بكل وضرها، والمؤلم أننا نهتاج لاستقبال ما انتهت صلاحيته نعادي من أجله الأهل والعشيرة ونذبح التراث تقرباً إليه، فحين انطفأ وهج (البنيوية) في الغرب، ونبذها منتجوها، تلقفناها مولودا، جديدا، نباهي به الأمم، لا نفهم جذورها الفلسفية ولا نتقن طرائق التطبيق النقدي من خلالها، ولما زرعت بيننا بذور العداوة والبغضاء، نبذها غواتها كسقط المتاع، مثلما نبذوا غيرها، ومن السهل استذكار ما نبذ من المذاهب والمناهج والمبادئ والانظمة وسائر الظواهر. ولك أن تسأل عن (النقد الاجتماعي) الذي تبناه طه حسين، و(النقد النفسي) الذي حفل به العقاد، و(النقد الواقعي) الذي أخذ به محمد مندور، ولك أن تسأل ايضا عن (السريالية) و(الدادية) و(التعبيرية) و(الرمزية) وعشرات المذاهب والتيارات والظواهر، وعما شئت من الأدباء والمفكرين الذين روجوا ل(الوجودية) و(الماركسية) و(الحداثة)، فستجدهم مع مذاهبهم ومعتقداتهم اثرا بعد عين، هلك من هلك منطويا على ضغائنه، وحي من حي على غير بينة، وها نحن اليوم نرى المتذيلين يتلاومون، حين نشر أحدهم غسيل الحداثة المحلية، على حد قول الشاعر حبيب قهوجي: لوى ذيله وانسحب لست أدري ما السبب وإن أعلن عن فشلها وبؤس أصحابها وانطواء اتباعهم على أنفسهم، والمؤكد أنه لم يكن أحد منهم مرمزا ولا مؤصلا، وما كان اعترافه مضيفا شيئا، كما يتوهم البعض، وما كانت بلادنا في يوم من الأيام مطارح حداثة منحرفة، وإنما هي نزوات جاهلة واحتفاء غبي ومواطأة أضوائية, لقد سمي هذا الجيل بالجيل الضائع فأجسامهم في الشرق وعقولهم في الغرب، كما يقول شكري عياد في كتابه (المذاهب الأدبية والنقدية) (ص 44),بوح