المفروض أن الأرقام لا تتجمل بل تعكس الواقع بوضوح وشفافية، ويفترض في الأرقام أن تعكس بشكل مباشر مدلولات الحدث دون تدخل الكلمات، كما يحدث في المجتمعات النامية التي يميل فيها الكلام إلى التطبيل أو التهويل أو التمويه. إن ما يتبرع به بعض المسؤولين بسخاء مفرط من ذكر أرقام تقريبية، جداً جداً، تصل إلى حد العشوائية، هو سوء استخدام واضح لهذه الأرقام لدعم كلام لا يقوم أصلاً على أسس علمية، هذا ما نلاحظه فعلاً فيما ينشر من أرقام عن مسائل اقتصادية حيوية مثل عدد الوظائف المتاحة، معدل البطالة، عدد السكان، وحجم الاستثمارات وإذا بني الكلام على أرقام عشوائية، يأتي التحليل فارغاً لا يملأ إلا صفحات الجرائد بمادة غثة لا تسمن ولا تغني من جوع، إن لم تكن مضللة وتقود إلى رؤية غير صحيحة لا تعين المختص والمهتم على معرفة الخلل والداء، وبالتالي لا تفيد في وصف العلاج الناجع الشافي. هذه المشكلة حقيقية وهي نتاج من يدعي المعرفة ويتجنى على العلم ويكمل نقصه المعرفي دون مبالاة ودون إدراك بأن وبال ذلك الفعل على المجتمع، والاقتصاد بالضرورة، أعظم وأكثر إيلاماً. المفروض أن تُبنى الأرقام على دراسات ميدانية تتم وفق الأسس والقواعد الإحصائية العلمية المتعارف عليها، بحيث تأتي ممثلة للواقع بقدر الإمكان وفي حدود وهوامش الاختلاف المقبولة علمياً. أما أن تطلق الأرقام بشكل عشوائي، فإن ذلك ينعكس بالضرورة على مستوى التحليل وقراءة الأرقام والاستفادة منها في الوصول إلى نتائج قيمة وتوصيات جدية؛ فالمسألة يجب أن يتم التعامل معها وضبطها بمهنية، ولعل البداية تكون في رفض هذا التعدي الفكري الذي يمارسه هؤلاء المسؤولون والتوعية الشاملة بأهمية التخصص في العمل، وهو المبدأ الذي كان من أسس بناء الدول الصناعية المتقدمة، فإذا تبنى المجتمع هذا التوجه الرافض لغثاء التصريحات الرنانة، فإنه يشكل بذلك حصناً منيعاً يقف حائلاً أمام اختراقات من لا يجيد إلا الكلام الفارغ يشتري به الوقت ليغطي على فشله الإداري ويداري ضيق أفقه ونقص علمه.