لا يخفى على أحد فريضة وأهمية زكاة الفطر للصائم، كما قال صلّى الله عليه وسلم عند أبي داود وغيره بسند صحيح (إنها طهرة للصائم من اللغو والرفث). وقد فرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما (صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والكبير والصغير من المسلمين). وللحديث روايات أخرى تنوعت فيها الأصناف. ولذا ذهب عامة أهل العلم إلى عدم قصرها على الأصناف الواردة في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي فيها ذكر لأصناف معيّنة. بل يجزئ أن تخرج من قوت البلد إذا كان مكيلاً أو موزوناً ومدخراً، وعامة قوت أهل هذه البلاد وغيرها هو الأرز ولذا نص علماء بلادنا على جواز إخراجها من الأرز، تحقيقاً لحاجة الفقراء والمساكين، ولذا على المسلم أن يبادر بإخراجها كيلاً بالصاع كما نص على ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلم. ولكن المشكلة تكمن بأن الأصواع تختلف باختلاف الأزمان والأماكن والناس، ولذلك اتفق العلماء حسماً لمادة الخلاف على اعتماد الصاع النبوي وجعله هو الأصل في ذلك وعدم الالتفات إلى غيره من الأصواع، ولذلك يجب أن تقدر الأصواع والأوزان بقدر الصاع النبوي وقد قدّر بعض أهل العلم في بلادنا، أن الصاع النبوي يعدل كيلوين وأربعين جراماً من البُر الجيد، فمن أراد أن يعرف مقدار الصاع النبوي فعليه أن يحضر ألفين وأربعين جراماً من البُر الجيد ثم يضعها في إناء وعلى قدر ما تصل في الإناء فهو مقدار الصاع النبوي، ولكن المشكلة تكمن باختلاف تقدير الناس للجيد والرديء من البُر، كما أن غالب الناس مع الأسف الشديد اعتمدوا هذا المقدار من الوزن وغيره من الأوزان التي اجتهد فيها بعض أهل العلم المعاصرين حيث قدّروا عندما استخدموا الصاع في الأرز ثم وزنوه فقّدروا أن الصاع النبوي يعدل كيلوين وسبعمائة جرام من الأرز، فجعلها كثير من الناس مقداراً للصاع النبوي بل اعتبروها قاعدة ثابتة على جميع الأطعمة والأصناف فأصبح بعضهم مثلاً يُخرج كيلوين وأربعين غراماً من التمر على أنه هو الصاع النبوي قياساً على البُر الجيد، ويخرج مقدار ذلك من الأرز لا يفرق بين جيده ورديئه، فقررت في العام الماضي خوض التجربة فوجدت مفارقات محزنة، فبعض أنواع الأرز بلغ مقدار الصاع النبوي عند الوزن (3 كيلوغرامات) وبعض أنواع الأرز بلغ الصاع (كيلوين وسبعمائة غرام) فوجدت أن من الصعوبة بمكان اعتماد الأوزان واعتبارها قاعدة ثابتة، وحتى أوضح ذلك: أحب أن أبيّن أن وزن الصاع مختلف من صنف لآخر، فمثلا التمر المكنوز لا يملئ الصاع منه أكثر من ثلاثة كيلوغرامات بعكس التمر اليابس (أي الناشف) فقد يزن الصاع منه كيلوين ونصف كيلو، كذلك أنواع التمر الأخرى، فالسكري له وزنه المختلف بين مكنوزه وبين ناشفه، وتمر الإخلاص كذلك تختلف أوزانه باختلاف أنواعه وأحجامه والإقط والزبيب لهما أوزانهما المختلفة كذلك ما بين جيدها ورديئها وصغيرها وكبيرها فاعتماد وزن واحد وجعله قاعدة ثابتة من الأمور المستحيلة. كذلك حدث لي في العام الماضي قصة مع زكاة الفطر أكثر إيلاماً وذلك أنني اعتمدت مقدار الصاع النبوي (ثلاثة كيلوغرامات) كما ظهر لي فاشتريت كيساً من الأرز من شركة مشهورة وضع عليه أن يزن (45 كغ) وعندما قمت بوزنه فإذا بي أفاجأ بأنه لا يزيد عن (39 كغ) فاشتريت مجموعة من الأكياس من أكثر من شركة لعل هذه الحالة تكون شاذة فوجدتها تتفاوت أيضاً فبعضها (41، 43، 45 كغ) مع أن الجميع قد كتب عليها أنها تزن 45 كيلو، وقد يقول قائل إنني شققت على نفسي، وبحثت في أشياء ما كان لي أن أبحث فيها فأقول هذا ليس بصحيح بل هذه عبادة يجب علينا أن نحتاط عند أدائها ونتثبت فالرسول صلّى الله عليه وسلم حدد لنا كيلاً معيناً علينا التقيد به، فلو أن إنساناً ذهب لبائع خبز واشترى منه خبزاً لنفسه لوجدته يقوم بعدّه حرصاً منه على عدم ضياع حقه، فكيف بعبادة قد فرضها الله علينا وجعلها حقاً واجباً علينا للفقراء والمساكين فهي بالتأكيد والتحقق أولى بالتثبت والتبين والتأكد من صحة وزنها من ذلك الخبز الذي نتأكد من عدّه عند شرائه لأنفسنا فحق الله أولى بالتأكد والتثبت من صحة وزنه حتى تتأكد أنك أديتها كما أمر، وقد يقول قائل: وهل يلزمنا أن نقوم بوزن كل كيس للتأكد من صحة وزنه من عدمه، فأقول نعم خاصة وأن بعض الشركات لا تبرئ الذمة باعتماد ما تذكره من أوزان، كذلك ما الضرر من قيامنا بوزن ذلك طالما أن التأكد واجب علينا شرعاً، ولو كان فرضاً علينا في كل يوم مائة مرة أو أكثر فكيف وهو لا يجب علينا في السنة إلا مرة واحدة فقط؟ فكيف تطيب نفسك أن تخرج الزكاة وأنت غير متأكد من صحة الوزن، فقد تخرج كيساً عن (15 فرداً) من عائلتك وهو لا يجزئ إلا عن (13 فرداً) لأن هذا الكيس قد يفقد من وزنه الحقيقي ستة كيلوات أو أكثر من الوزن الذي كُتب على غلاف الكيس كما حدث لي في العام الماضي، ومما يوجب التأكد من صحة أكياس الأرز أن بعض القائمين على تعبئة هذه الأكياس قد لا تبرأ الذمة بأقوالهم وأفعالهم. إن الاعتماد على ما تكتبه الشركات على أغلفة إنتاجها من مقدار الوزن ليس سائغاً شرعاً خاصة وأن إمكانية الوزن متيسرة في كل محل وقد يتعذر بعضهم بأن الوقت قد يكون ضيقاً والزحام شديداً فأقول: هذا ليس بعذر ولله الحمد، فما المانع أن يهيئ المسلم زكاة فطره قبل رمضان بأشهر، أو مع بداية رمضان قبل الزحام وانشغال الناس، ثم يخرجها في وقتها الشرعي في ليلة العيد؟ كذلك ما المانع من أن يخرجها من القوت الذي يوجد في بيته فليس شرطاً أن يشتري لزكاة الفطر أكياساً جديدة، أو عليه على الأقل أن يحتاط لنفسه فيخرج مزيداً من الكيلوات؟ كما أنني أطالب هيئة المواصفات والمقاييس باعتماد صاع يكون موافقاً ومماثلاً لمقدار الصاع النبوي وإشاعته بين الناس، كذلك اقترح عليها إخراج كتيب يحتوي ما يعادل الصاع النبوي من الأوزان بالكيلوات من أصناف الزكاة المختلفة كالأرز والبُر والتمر.. إلخ. فمثلا: يذكر في هذا الكتاب: أن التمر السكري الجيد متوسط الحجم قدر الصاع من الكيلوات فيه كذا وكذا وأما صغير الحجم فقدره كذا وكذا وكبير الحجم من تمر الإخلاص مكنوزاً كذا وكذا ويبساً - ناشفاً - كذا وكذا، أما أرز الشعلان فحبته الصغيرة قدر الصاع النبوي منه كذا وكذا من الكيلوات وحبته الكبيرة كذا وكذا، وأما أرز الرشيد وبابكر والعثيم وغيرهم من الشركات فالصاع النبوي يعدل من أوزانها كذا وكذا للصغير وكذا وكذا للمتوسط وللكبير، وليس ذلك بصعب عليها ولا معجز، بل إن هناك من طلبة العلم من هم على استعداد للتعاون معها في ذلك، أو تسعى هي جاهدة مشكورة لنشر الصاع النبوي وإشاعته بين الناس بعد اعتماده من جهة الإفتاء حتى تبرئ ذمتها أمام الله لأن هذه القضية من مسؤولياتها. كما أنني أقدّم اقتراحات للشركات المستوردة للأرز والبُر، كذلك الشركات المنتجة للتمر وغيرها من أصناف الزكاة وهو كما يلي: أ- أن تقدم الصاع النبوي هدية منها لزبائنها حيث اعتادت هذه الشركات أن تقدم هدية مع أكياس الأرز فما المانع أن تكون هديتها في هذا العام والأعوام المقبلة بإذن الله (الصاع النبوي) فتجعل مع كل كيس هذا الصاع حتى يقوم المزكّي بوزنه بنفسه، كما ان في ذلك فائدة عظيمة وهي أن يقوم الأب وحوله زوجه وأولاده لتوزيع الزكاة، ثم يبدأ بكيل الأوزان فيقول هذا لفلان وهذا لفلان حتى يتربى الأبناء ويتعودوا على أدائها في كل عام خاصة وأن مظاهر إظهار هذه الشريعة وإبراز هذه السنة النبوية العظيمة قد اختفت من غالب البيوت وأخشى أن تفقد فريضة زكاة الفطر عند بعض الأسر بسبب عدم تربيتهم على أدائها لأن غالب الآباء يشتري هذه الزكاة أو يوكل من يقوم بالشراء عنه ولا يعلم من هم تحت رعايته شيئاً عنها فإن إظهار هذه الشركات هذا الصاع وإبرازه سيكون عاملاً مساعداً على إحياء هذه السنّة بإذن الله ولو كنت أرغب بتجارة لاحتفظت بهذه الفكرة لنفسي وتبنيتها أو قدمتها اقتراحاً لبعض الشركات المنتجة والمستوردة لهذه الأصناف ولكنني أرجو أجرها بإعلاني لها. ب- كما أنني أقدم للتجار فكرة وهي إنتاج الصاع من وعاء بلاستيكي أو من الألمنيوم وأسعاره فيما أظن رخيصة وتعبأ أكياس الأرز وتغلّف بهذا الصاع فيشتري المسلم هذه الكمية بصاعها ويقوم بالتصدق به ولا أظن ذلك صعباً ولا مكلفاً ولا مستحيلاً بل ظريفاً ومفيداً ومريحاً بإذن الله خاصة وأن هذه الكميات تحتاج إلى أغلفة عند بيعها فيكون غلافها صاعها، فبدل من أن توضع هذه الكميات بأكياس من الخيش توضع بأوعية من البلاستيك على شكل الصاع قدراً وحجماً. وفي الختام أنا على يقين أن هناك من قد لا يعجبه كلامي بل قد يتهمني بالتشديد على نفسي وعلى غيري أو يخالفني في وجهات النظر، وأقدر له تلك المخالفة ولكنني أحسب نفسي قد اجتهدت فيما أظن أن فيه إبراء لذمتي، خاصة وأن هذه المشكلة قد وقفت عليها بنفسي، فوجب عليّ إيضاحها تبرئة لذمتي من إثم إخفائها، فها أنا أعرضها فمن أراد أن يأخذ بها فليأخذ، ومن أراد أن يعرض عنها فليعرض والله أعلم.