ليس من السهل تحديد نقطة الصفر التي انطلقت منها اللغة، بَيْد أن العربية تُعد إحدى أقدم اللغات إن لم تكن أولاها على الأرض، فلسان سيدنا آدم عليه السلام كان عربياً لأنه نزل من الجنة، ولغة أهل الجنة كما أخبرنا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام هي اللغة العربية، فلقد علَّم الله آدم الأسماء كلها في الجنة قبل أن ينزل إلى الأرض مع حواء، وعلى هذا كان لسان أبينا آدم عربياً. ولا ريب أن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان لسانه أقرب للعربية هو وأولاده إسماعيل وإسحاق، ومما يؤيد ذلك الاتجاه أنه عند بناء الكعبة المشرفة في مكة كما أمر الله تعالى كانت القبائل العربية ومنهم قبيلة جرهم تسكن بالقرب من مكةالمكرمة، الأمر الذي يوضح وجود العرب الناطقين بالعربية قبل نزول الأديان السماوية الثلاثة، وامتثالاً لقول الله تعالى لإبراهيم {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، ولكي يلبوا نداء الحج لا بد أن يكون الأذان بالعربية لأن القبائل التي تسكن هناك عربية. ولسنا هنا بصدد وجهة نظر فلسفية بقدر ما نريد إثبات أسبقية اللغة العربية وأنها لسان الألسنة.. أما اللغة العبرية الموجودة الآن فهي حديثة ومحدثة في نفس الوقت، فمن جهة العمومية أصل كلمة عبراني مشتقة من عابر حفيد سام بن نوح، وتدل كذلك على الانتقال والتّحول من مكان إلى آخر أو العبور من شط إلى شط آخر، والعبريون هم قوم عبروا النهر فسموا عبرانيين، مثلهم مثل البدوي الذي يتنقَّل ويترحَّل في الصحراء. وظهرت كلمة عبري في التوارة في سفر التكوين (13-14) لإشارة إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام باعتباره عابر النهر فلم يكن أصلاً للكلمة دلائل أخرى لعدم وجود الديانة اليهودية أو ابتعاث موسى عليه السلام بالرسالة مع العلم أن أسبقية نزول الديانة اليهودية على بقية الأديان في الأرض لا يعني بالضرورة أسبقية اللغة العبرية نظراً لوجود الشعب الكنعاني (العرب القدماء) في فلسطين قبل مجيء اليهود إليها وقبائل جرهم العربية التي صاهرها إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام عندما نزل في مكةالمكرمة. واختلف العلماء حول نشأة اللغة العبرية بالصورة التي يتحدث بها اليهود اليوم، فمنهم من يرجح قيام أحد المستشرقين الألمان بتحويل في اللغة العربية وإضافة بعض الكلمات من الإنجليزية والألمانية وإيجاد اللغة العبرية التي اقتصر استخدامها في البداية على الحاخامات اليهود وعند قراءة النصوص الدينية ومن ثم أخذت في الانتشار بين اليهود. والغالبية ترجِّح أن إحياء الرطنات المبهمة التي كان اليهود يستخدمونها فيما بينهم تمَّ تطويرها إلى اللغة العبرية من قِبل الحركة الصهيونية بغرض توحيد اللغة التي يتحدث بها اليهود خصوصاً أنه خلال السنوات الأولى لاستيطان اليهود قام العديد من المعارك الثقافية والفكرية حول اللغة التي سيتحدث بها اليهود، وكان التيار الغالب يفضِّل استخدام الألمانية أو الإنجليزية، وكادت تلك الصراعات أن تمزق وحدة الصف.. وتقرر بعدها توحيد اللغة واستخدام العبرية المشتقة من العربية. وقبل أن نمضي في هذا الاتجاه لا بد من التذكير بأن قصة موسى عليه السلام التي تؤكد أنه نشأ وتربى في مصر منذ لحظة ولادته حتى شبابه وغادرها إلى مدين بالأردن وتزوج من ابنة النبي شعيب عليه السلام، وحتى عندما قاد بني إسرائيل خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد إلى فلسطين غير أنه لم يدخلها وتاه في صحراء سيناء مع قومه 40 سنة. واستناداً إلى ذلك، يمكن تأكيد أن الله عز وجل لم يخاطب سيدنا موسى بالعبرية لأنها في الأصل غير موجودة في تلك الحقبة الزمنية.. هذا بجانب أنه وعند الرجوع إلى النسيج اللغوي بمصر القديمة ومدينة مدين يتضح الآتي: أولاً: معروف أن الطفل يتعلَّم اللغة من البيئة التي نشأ فيها وكذلك المهاجر والوافد لا بد أن يتحدث بلغة الشعب الذي هاجر إليه أو اندمج فيه. ولقد عاش موسى عليه السلام في مصر القديمة وتحديداً في زمن آخر فراعنة مصر القديمة التي كانت في ذلك الوقت تتحدث اللغة المصرية القديمة وهي نفسها اللغة المنطوقة للشعب مصري منذ العهد الفرعوني القديم وحتى العهد الحديث، فاللغة المصرية تُعد من اللغات الحية التي لم تمت فيه ومن أكثر لغات الأرض حياة وحيوية نظراً لتعاقب الحضارات المختلفة في مصر.. فكلمة - بص - بالمصرية القديمة والحديثة، التي تعني انظر أو شاهد هي في الأصل كلمة عربية اشتقت من البصر. والذي يعنينا أن الكلمات المصرية تُعد عربية الأصل وتتبع ما يعرف بالقطع باللغة العربية، وعليه يمكن التأكيد على أن موسى عليه السلام كان يتحدث في بداية حياته بلسان أهل مصر لأنه عاش معهم منذ ولادته وكان رسولاً يحمل رسالة إلهية ولا بد أن يحمل رسالة الدعوة والتبليغ لأهل مصر وفرعون باللغة المتداولة في ذلك المكان والزمان باعتبارها لغة القوم الذي عاش وتعامل وتخاطب معهم. ثانياً: كان بمصر القديمة ولا يزال الأقباط وكانت اللغة السائدة عند الأقلية القبطية بمصر القديمة آنذاك هي الهيروغليفية وبالرجوع للموسوعات التاريخية فإن أصل كلمة (هيروغليفي) مشتقة من الكلمتين اليونانيتين Glophos (جلوفوس) وHieros (هيروس) وتعنيان الكتابة المقدسة حيث إنها كانت تستخدم للكتابة على جدران الأماكن المقدسة مثل المعابد والمقابر.. كما أن الهيروغليفية كانت عبارة عن كتابة منقوشة تتم على الأحجار بأسلوبي النقش البارز أو الغائر على الجدران الثابتة وعلى الآثار المنقولة مثل التماثيل واللوحات والصلايات وتتكون الكتابة الهيروغليفية من مجموعة من النقوش المستمدة من الحياة اليومية فهي كتابة تصويرية. ولا يضاهي الهيروغليفية في القدم سوى الخط المسماري الذي ظهر في بلاد النهرين وهو أقدم خط رمزي وليس أقدم خط حرفي ويجب التفريق بين الخط بأنواعه الرمزي والحرفي وبين اللغة والمحادثة التي سبقت التدوين والكتابة. أسبقية الخط وبخاصة الخطوط الرمزية لا تعني أسبقية في اللغة، وبالرجوع إلى النقوش اليهودية بمصر والمخطوطات الأولى يتضح أنها كانت بالهيروغليفية لا العبرية، وتُعد تلك الآثار والمخطوطات اليهودية بمصر الأقدم لأنها الأسبق تاريخياً عندما سكن يعقوب وأبناؤه الأسباط (الذين كوَّنوا القبائل اليهودية) في مصر عندما استقروا بزمن أخوهم يوسف عليه السلام، وحتى القارىء العادي للتاريخ يمكنه الوقوف على محاولة سرقة هذه الآثار اليهودية من مصر ولعل من أخطر ذلك محاولة مجموعات إسرائيلية تزوير بعض الآثار المصرية (في مواقعها بأرض مصر) بهدف تغيير سياق ومضمون النصوص التاريخية، ولقد تم ضبط مجموعة من أدوات الحفر والألوان المعدة للتزوير بحوزتهم والتي تقارب الألوان الأصلية ومجموعة من الصور للنصوص المراد تشويهها موضحاً عليها أماكن التزوير المستهدفة. ثالثاً: عندما خرج موسى عليه السلام من مصر إلى مدين التي عاش فيها عشر سنوات إيفاء بالعهد الذي قطعه مع شعيب عليه السلام وتزوج إحدى بناته معلوم لأن شعيب عليه السلام كان عربياً.. وهناك حديث شريف مفاده (وأربعة من العرب: هود وشعيب وصالح ونبيك يا أبا ذر).. وعليه تحدث موسى عليه السلام العربية هناك باعتبارها لغة شعيب وقومه. أما عن بني إسرائيل المتواجدين بمصر منذ زمن يوسف عليه السلام عندما جاء بإخوته وأبويه إلى مصر وعاشوا فيها مكونين الأسباط الاثني عشر لبني إسرائيل فينطبق عليهم ما ينطبق على المهاجر والوافد الذي لا بد أن يندمج مع النسيج اللغوي للمجتمع المصري القديم والحضارة الفرعونية فيه، ويتحدث لغة المجتمع الذي يعيش ويتعامل معه وهي اللغة المصرية القديمة. هذا ويلاحظ تأثير اللغة المصرية على المصطلحات والأبجدية العبرية، ونرى كيف أن أبجدية اللغة العبرية (اليهودية) مستمدة في الأصل من أصوات الحروف المصرية القديمة حتى إن حرف (ج) بالعبرية ينطق كما ينطق المصريون اسم (جمال) وبينما تتكون اللغة العربية من 28 حرف هجاء وتتكون العبرية من 22 حرف هجاء كما يلي: ألف، بيت، جيمل، دالت، هه، واف، زاين، حيت، طيت، يود، كاف، خاف، لمد، ميم، نون، ثمخ، عاين، فه، صدق، قوف، ريش، شين، سين، تاف، أل.. وحتى إن حافظ بنو إسرائيل من ذرية إسحاق عليه السلام على لغتهم الأساسية فهي تاريخياً تعد كنعانية وليست عبرية. والكنعانيون هم أصل العرب والسكان الأصليون في فلسطين والأردن وكانوا يتحدثون هم والمهاجرون والوافدون اللغة العربية القديمة لكن بلهجات مختلفة لا تختلف عن اللهجات العربية الحالية كثيراً وهذا هو بالتأكيد لسان أم موسى التي أرضعت ابنها بقصر فرعون عندما رفضت المرضعات. هذا وعرفت الأبجدية الكنعانية (العربية القديمة) باسم أبجدية الأوغاريتية ورتبت حسب الترتيب الآتي: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، .... وعليه يمكن حسم إشكالية هوية اللغة في خطاب التبليغ الإلهي والدعوة خصوصاً أن العلماء والمؤرخين قد أسهبوا في تدوين ونشر جغرافية التوراة ولم يعطوا دراما اللغة الحق الكافي بالبحث والتدوين. خلال تلك الحقبة الزمنية الممتدة لعشر سنوات التي عاشها موسى عليه السلام في مدين مع زوجته ابنة شعيب، بالتأكيد تحدث اللغة العربية التي تغلب لغوياً واجتماعياً على النسيج المكوّن لشخصية سيدنا موسى عليه السلام، وهي اللغة الأقرب إلى لسانه، التي خاطبه الله عز وجل بها دون سائر اللغات. رابعاً: ومن أجل التلخيص.. يتضح وبالاستناد إلى جغرافية التوراة والنسيج اللغوي المكوّن لشخصية سيدنا موسى عليه السلام إتقان موسى عليه السلام المصرية القديمة في مصر التي تُعد إحدى اللهجات العربية وإتقانه للعربية الكلاسيكية في مدين التي بها اشتد وصلب فيها عوده عندما تزوج ابنة شعيب عليه السلام وعاش عشر سنوات. بعدها خرج في رحلة العودة إلى مصر واصطفاه الله من البشرية لحمل الرسالة وكلمة الله عز وجل باللغة العربية دون سائر أنماط اللغات الأخرى بتلك الحقبة الزمنية إذا لم تكن اللغة العبرية موجودة فرضياً ومنطقياً في عملية الحراك الاجتماعي أو النسيج اللغوي. وحتى عند الاطلاع على سفر التوراة يلاحظ عدم ورود كلمة عبرية إطلاقاً وكانت الإشارة إلى اللغة تأتي تحت مسمى لغة كنعان، التي ترجع جذورها إلى اللغة العربية القديمة باتفاق العلماء رغم اختلاف مشاربهم على عروبة لغات العالم.ويبقى للتذكير.. أن على علماء اللغة العربية وخبراء اللسان العربي مسؤولية البحث والتدوين خصوصاً أن اللغة العربية هي أصل لغات العالم أجمع ما عدا الصينية واليابانية، ومن الخطأ الفادح عدم تفعيل حركة النشر والتأليف في ذلك وعمل القواميس العلمية التي توضح وترجع جذور مختلف اللغات إلى اللغة العربية التي تُعد بمثابة لسان الألسنة، فالتراث العربي يبحث عن مطالبين. وسيترتب على تلك البحوث نتائج كثيرة. [email protected]