قدم البروفسور آفي شفتيل محاضرة في المؤتمر الخامس والثلاثين للدراسات الآسيوية والشمال افريقية الذي انعقد في بودابست في تموز يوليو الماضي، تحدثت عن تأثير اللغة العربية على اللغة العبرية في مختلف المراحل التاريخية، منذ فجر الاسلام لغاية اليوم. والبروفسور شفتيل باحث في مكتبة جامعة كامبردج البريطانية، ويحقق الآن عدداً من المخطوطات المكتوبة بالعربية وتعود الى الطائفة اليهودية في مصر.1 واللغتان العبرية والعربية، الى جانب العديد من اللغات الاخرى التي انتشرت في الشرق الأوسط مثل الآكادية والبابلية والكنعانية والآرامية وغيرها، تصنف ضمن عائلة اللغات السامية. ويعني ذلك نشوء هذه اللغات من أصل واحد أسماه العلماء اللغة السامية الأم، وهو افتراض منطقي لكنه لم يوثق بدلائل ملموسة لحد الآن. وتتشابه اللغتان العبرية والعربية في العديد من الاوجه، ونجد في اللغة العربية لهجة قريش وفي العبرية الكلاسيكية عبرية التوراة تشابهاً في معاني الكلمات، ليس أفصح منه التشابه في أهم كلمة من السطر الأول للتوراة مع كلمة عربية نكررها يومياً: الباري عز وجلّ، الخالق. وتبدأ التوراة بالشكل الآتي: "بريشيت بارا ايلوهيم ها شمايم وها ارص". وترجمتها "في البدء خلق الاله في الأصل: الآلهة بالجمع السموات والأرض"، والفعل العبري بارا يخلق، وهو الفعل نفسه الذي مصدره العربي الباري. وكان تأثير العربية على العبرية شديداً في آخر ثلاث من مراحل تطور اللغة العبرية التاريخية. والمرحلة الأولى من مراحل تطور اللغة العبرية في العصور القديمة جاءت قبل الميلاد، قبل وأثناء السبي البابلي لليهود عندما دون الاحبار كتب التوراة وباقي أسفار العهد القديم بلغة تفرعت عن اللغة الكنعانية اللغة السامية الأساسية لشعوب بلاد الشام، وتطورت عنها هي اللغة التي يسميها الباحثون بالعبرية. واختتمت هذه المرحلة بانحسار العبرية كلغة تخاطب بين العبرانيين، واقتصارها على الاستعمال الديني في الكنيس في القرون الأولى قبل الميلاد. وعند ازاحة اللغة الآرامية للعبرية كلغة تخاطب، بدأت المرحلة الثانية من مراحل تطور اللغة العبرية التي استمرت لغاية الفتح العربي الاسلامي، وتميزت بتأثير شديد للغة الآرامية اذ كتبت الشروح بهذه اللغة التي اصبحت لغة التخاطب في الشرق الأوسط برمته. وظهرت في هذه الفترة كتب المشناه والتلمود التي تفسر النصوص العبرية للعهد القديم. ومنذ نشوء الدولة العربية وانتشار الاسلام، اصبحت اللغة العربية اللغة السامية الأهم من بين اللغات السامية الحية آنذاك، والتي ازاحت الآرامية من عرشها لتحل محلها، ولتصبح اللغة التي تحدثت بها شعوب المنطقة. وهنا بدأ تأثير العربية على العبرية التي حافظ عليها اليهود في محافلهم الدينية، واستعارت العبرية كلمات وتعابير ومفاهيم وجملاً وتراكيب كثيرة من اللغة العربية، وقد انحصرت اللغة العبرية في شذرات هنا وهناك، قصائد استنسخت فن نظم الشعر العربي وبحوره، ونثر قلد أساليب الإنشاء العربي. ولم يقتصر التأثير على ميدان اللغة فحسب، بل ان الثقافة والفكر العربيين أثرا بشكل كبير في تفكير اليهود، خصوصاً في الأندلس. وتحدث اليهود - العامة والمثقفون على السواء - بالعربية في ارجاء الامبراطورية كافة وألفوا بها اعمالهم، ولربما استعملوا الحروف العبرية لكتابتها. وبرز موسى بن ميمون ميمونيدس عند الأوروبيين من بين العلماء اليهود الذين ألفوا دراسات حول الدين اليهودي بالعربية وكتبوها بالحروف العبرية. وتسمى هذه اللغة باليهودية - العربية، وهي في أبعد تقدير لهجة من اللهجات العربية المحلية العامية، مطعمة بكلمات عبرية الأصل هنا وهناك. ولننظر الى نص من نصوص هذه اللغة كتب في القرن السادس عشر الميلادي بالحرف العبري يصف قصة النبي يوسف "عبيد ان شيت شنت اطلقنا وإن شيت ادخلنا للسجن. فقال لهو له يوسف ماسمك. قال لهو عبدك ومملوكك ياؤده يهوذا فقال لهو يوسف قد بان لي منك انك أخيَر من اخوانك وأنت صادق أمين. فسجد ياؤده على وجهه للأرض شاكرن شاكراً ليوسف على حسن لطفه به. فقال يوسف ياياؤده أين فضتكم الذي هكذا، بدلاً من التي أتيتو...". هذا النص المكتوب بالحرف العبري المربع التقليدي، هو نص عربي اللغة مئة في المئة، ولا نجد فيه ما يختلف عن اللغة العربية المستعملة في القرن السادس عشر الميلادي. ونلحظ من النص ان الكاتب لم يستعمل التنقيط العبري المقابل للتحريك العربي، واستعاض عنه باستعمال أحرف العلة لتدوين الحركات العربية، لذا يكتب لهو بدلاً من له، وشاكرن بدلاً من شاكراً، وفي هذا انعكاس للتقاليد الآرامية في استعمال احرف العلة لضبط الشكل. وتلك الفترة مثلت المرحلة الرابعة من مراحل تطور اللغة العبرية التي تقهقرت أكثر فأكثر لتحتمي في بطون الكتب الدينية لليهود. ويأتي استعمال اللغة العبرية الحديثة التي تم ابتكارها في اواخر القرن التاسع عشر من قبل مفكري الحركة القومية اليهودية النامية في أوروبا للعديد من الكلمات والتعابير العربية التي تتزايد باستمرار، دليلاً آخر على عمق التأثير الذي مارسته العربية على اللغة العبرية ولا تزال. وأحصى البروفسور شفتيل 700 تعبير عربي الأصل في العبرية الحديثة المستعملة اليوم في اسرائيل، وهو رقم في تزايد يوماً بعد يوم. وما كان لهذه اللغة الجديدة من يكتب بها الأدب والشعر في بداية الامر، وتأخر ظهور كتّاب وشعراء كبار الى العقود الاخيرة. ومع ذلك يمكن القول ان افضل من يكتب القصة في اسرائيل اليوم هم يهود ينحدرون من اصول عربية، بينهم سامي ميخائل وسمير نقاش، اما الشعر فبرع فيه مهاجرون روس مثل شالوم رابينوفتس المعروف بشالوم عليخيم وشاؤول تشرنخوفسكي، ونجح يهودي مجري الأصل هو افراييم كيشون فرنتس كيشهونت في وضع اساس الأدب الساخر الذي تعود جذوره الى أوروبا الوسطى. التقيت البروفسور شفتيل بعد ختام المؤتمر فحاورته عن المحاضرة التي قدمها، وعن تقييمه للمؤتمر الذي شارك فيه اكثر من ألف مستشرق. كنت أود معرفة رأيه عن هذا المؤتمر، والفارق الذي لمسه عند مقارنة هذا الحدث المهم بمؤتمرات سابقة أصغر، نظمها قسم اللغة العربية في جامعة العلوم المجرية حضرها في العامين 1993 و1995، فأجاب البروفسور شفتيل "ان الفارق الأساسي يكمن في العدد، ففي السابق اشترك 40 - 50 شخصاً في ندوة تقيدت بمواضيع معينة، اما الآن فقد اشترك عدد كبير من العلماء في اعمال هذا المؤتمر الذي استضافته بودابست، والمجر دولة مهمة في ميدان الدراسات الشرقية، وتعرفنا على شخصيات جديدة من مختلف انحاء العالم". وقال شفتيل بعد سؤالي عن تأثير العبرية على العربية: ان تأثير العبرية على العربية ليس كبيراً، والعكس هو الظاهرة الجديرة بالدراسة لكثرة الكلمات والتعابير والمفاهيم التي اقتبستها العبرية من العربية. وسبب ذلك تجمد العبرية لفترة طويلة من الزمان، ولم يستعمل اليهود العبرية في التخاطب اليومي بل العربية لأن اللغة العربية هي أقوى لغة سامية في العالم، وهي كثيرة القرب من اللغة السامية الأم التي تفرعت عنها اللغات السامية المختلفة. واحتفظت العربية بكل الحروف والأصوات المميزة للغة السامية الأم. ولا شك في وجود تأثير ونفوذ للغة العربية على اللغة العبرية الحديثة التي بدأت تحيا او يعاد احياؤها من جديد منذ 100 عام تقريباً. ومنذ القرن الثاني الهجري القرون الوسطى اصبحت اللغة العربية اللغة المحكية المستعملة لدى عامة اليهود الذين عاشوا في ظل الحكم الاسلامي، ولم يستعملوا من العبرية الا القليل من الكلمات وبعض العبارات. واستعمل كبار العلماء اليهود اللغة العربية لكتابة اعمالهم في العصر الوسيط، مثل الميمون موسى بن ميمون المعروف بالميموني 1135 - 1204 وهاليوي يهوذا بن صمويل هاليوي 1085 - 1140 المعروف بأبي الحسن اللاوي، من الأندلس، الا انهم استخدموا بعض الكلمات والعبارات من التوراة والمشناة والترجوم. لكن سيطرة اللغة العربية على الشرق الأوسط سبقتها سيطرة اللغة الآرامية قبل الاسلام. واعتبرت اللغة السامية الآرامية ما يصطلح عليه ب Lingua Franca، او لغة التفاهم بين الشعوب، واستعملها اليهود للمخاطبة ولكتابة التلمود احد اهم الكتب الدينية. وكتب اليهود الذين عاشوا في بابل التلمود البابلي الذي هو من كتب التفسير والمشناة وهو تكرار للعهد القديم لكن باللغة الآرامية. وبعد الفتح العربي الاسلامي للمنطقة حلت العربية محل الآرامية، لكن اليهود احتفظوا بالآرامية لأنها لغة التلمود ليس إلا. وسبب الآراميون مشاكل كثيرة لليهود الذين سكنوا فلسطين، وكانوا مسؤولين عن المنفى السبي اليهودي المشهور وطرد اليهود من مسكنهم في الشرق الأوسط الى آرام.2 وبعد ذلك تبنى اليهود اللغة الآرامية وهي اللغة التي استعملها السيد المسيح، واستعملتها كل شعوب الشرق الأوسط آنئذ.3 وحاولت معرفة سبب غياب تلك الدراسات المقدمة الى المؤتمر المتعلقة بحضارة وادي الرافدين ومنطقة الشرق الأدنى القديم بشكل عام، فقال البروفسور شفتيل "لم نكن مهتمين بهذا الموضوع لفترة طويلة من الزمن، الا انه بعد حملة نابليون على مصر قبل 200 سنة، بدأ الأوروبيون يدلوننا على تراث الشعوب التي تعيش في الشرق الأوسط. ومنذ قيام شعوب اخرى مثل الفرنسيين والانكليز والألمان والروس وغيرهم بدراسة تراث الشرق الأوسط، اخذنا نشعر بأننا ظلمنا تراثنا، وبدأنا نتعلم منهم كل ما يتعلق بتراثنا. ومعرفتنا بهذا التراث معرفة نظرية طبيعية، في حين معرفة الأوروبيين له معرفة بنيت على التجربة الشخصية، فهي ليست طبيعية لأنهم لم ينشأوا في بيئة الشرق الأوسط. اما اليوم فهناك علماء عرب وغير عرب يعيشون في الشرق الأوسط ولهم معرفة جيدة لأنهم درسوا في الخارج وطبقوا ما درسوه في ابحاثهم. لذلك ليس من شك في ان الرعيل الأول من العلماء الذين يعملون في مجال تراث الشرق الأوسط هم عرب يعيشون في هذه البلدان. اما المؤتمر الحالي، فقد وفّر لنا فرصة نادرة للقاء علماء من مختلف البلدان والاختصاصات وتبادلنا الافكار وبدأنا عملية تعاون واسعة، فالعالم اليوم معقد اكثر وهناك كم هائل من المعلومات يصعب التعامل معه بشكل فردي، لذا يتوجب تعاون العلماء من مختلف بقاع العالم للتوصل الى النتائج المطلوبة". وكان الرئيس المجري آرباد غونتس افتتح المؤتمر الخامس والثلاثين في السابع من تموز يوليو الماضي، وألقى الأمير الحسن بن طلال ولي عهد الأردن كلمة في الحفل اكد فيها على ضرورة تجنب النظرة الاحادية الجانب وقراءة تاريخ العالم من منظور الثقافة الغربية الأوروبية فحسب. ورحب البروفسور جورج هازاي رئيس المؤتمر بالمستشرقين ودعاهم الى صياغة توصياتهم لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. وقد عقد المؤتمر الأول في العام 1873 في باريس، وانقطع عقده مرتين، في فترتي الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعقد المؤتمر مرة واحدة في أرض عربية هي الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي، في العام 1905. ومن المتوقع عقد المؤتمر السابع والثلاثين في الأردن في العام 2003. اما المؤتمر القادم فسيعقد في مونتريال بكندا في العام 2000، وأصبح البروفسور شارل لوبلان رئيس المؤتمر المقبل. وقد التقيت البروفسور جورج هازاي رئيس المؤتمر الخامس والثلاثين للدراسات الآسيوية والشمال افريقية عضو اكاديمية العلوم المجرية، وهو متخصص في التركيات لمعرفة رأيه بالمؤتمر فقال: "كان المؤتمر ناجحاً، فقد اجتمع علماء بارزون من عشرات البلدان، وكان عندهم ما يقولون لبعض، وقدموا مداخلات ومحاضرات رفيعة المستوى تلقاها المستمعون بتقدير، والتي سيتلقاها اولئك الذين سيقرأونها في كتاب يصدر لاحقاً بتقدير أيضا". وعن الاقتراح الذي قدمه الأمير الحسن ولي عهد الأردن لاستضافة المؤتمر القادم، أضاف البروفسور هازاي: "في الحقيقة كانت هناك مشكلة تكتيكية لا غير، فقد تأخر الاقتراح، اذ قدم الكنديون مقترحهم في مؤتمر هونغ كونغ قبل أربعة اعوام لاستضافة المؤتمر وقدموا ميزانيته. وعلى الرغم من ذلك، وحسب مبدأ تداول محل عقد المؤتمر بين القارات، نعتقد بأن الدور سيأتي الى الشرق الأوسط، ولذلك استقبلنا دعوة الامير الحسن بن طلال بعقد المؤتمر في عمان بحدود العام 2003 بارتياح، وسيساعد هذا بالتأكيد في تعزيز فاعلية مشاركة العلماء الذين يعيشون في بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا في الحياة العلمية العالمية". في هذا المؤتمر لم نلتق للأسف بأي عربي شغل منصباً في هيئات المؤتمر، بالمقابل انتخب الدكتور عبدالجليل التميمي الأستاذ بكلية العلوم الانسانية الاجتماعية بجامعة تونس الأولى نائباً لرئيس المؤتمر السادس والثلاثين للدراسات الآسيوية الذي سوف يعقد في مونتريال. وتتكون الهيئة المديرة التي تشرف على المؤتمرات العالمية من رئيس ومن امين عام. وانتخب التميمي ليكون أحد نواب الرئيس ليمثل العالم العربي في هذه المؤتمرات الدولية، وقبل ذلك لم يمثل احد العالم العربي لسوء الحظ. ويعتقد التميمي بأن نوعية العمل الاكاديمي العربي اعطى ثقلاً جديداً للمنطقة العربية. 1 - B. Hary: The Impact Of The Cairo Genizah Documents on The Study of The History Of Arabic. Bulletin Of The Israeli Academic Centre in Cairo. No. 21. July 1997. P. 38. 2 - بلاد آرام، حسب المعلومات المتوافرة، تقع في البادية السورية، ويبدو ان المقصود هو بابل، وقد كثرت في تلك الحقبة الدويلات الآرامية في منطقة الجزيرة وأعالي الفرات وفي جنوبالعراق أيضاً. 3 - لا تزال الآرامية مستعملة الى اليوم في مناطق نائية من كردستان، وفي بعض قرى جبال لبنانالشرقية الى جانب اللغة السريانية، احد الفروع المهمة للآرامية، وهي لغة لا تزال محكية في الشرق الأوسط يتكلمها المسيحيون الذين ينتمون لبعض الكنائس الشرقي ة