معظم الخلافات التي تنشأ بين الناس سببها الاستعجال في الحكم، وسوء الظن، والاستسلام للأخبار التي تبثها وكالة (يقولون)؛ حيث يصبح الإنسان سجين وهمه، وعجلته، وسوء ظنه؛ فيعادي مَن لا يستحق المعاداة، ويحاربه، ويضخّم أخطاءه، وربما يحوّل صوابه إلى خطأ، ويتخيل أنه عدو لدود ظالم؛ لأن الوهم قد سيطر على نفسه، ولأن الشيطان قد غذّى هذا الوهم، وأشعل في قلبه سوء الظن، ولأن شياطين الإنس قد وجدوا هم أيضاً فرصتهم فأشعلوا نيرانهم حتى تتحول المسألة الصغيرة إلى كبيرة، ويتحول الصواب إلى خطأ، والحق إلى باطل، والعدل إلى ظلم. ومن خلال تجاربنا في الحياة نرى أن سرّ كثير من مشكلات الناس وخلافاتهم إنما نشأ من خلل في قلوبهم ونفوسهم ذكّاه سوء الظن، وأشعله الاستسلام للحقد، وتصديق الأخبار التي يتناقلها الناس دون ضابط. لقد رأينا في الحياة وما زلنا نرى رجالاً ونساءً يصلّون ويصومون ويحجّون ويعتمرون، ولكنهم يسقطون عند أول اختبار في مسألة سوء الظن والحقد والبغضاء، والسبب في ذلك أنهم فتحوا آذانهم لكل خبر ملفق أو كلمة حاقدة، أو رأي معجون بسوء النية، واستسلموا لذلك دون تثبت؛ فوقعوا في المحظور الشرعيّ من السبّ والشتم والعبارات البذيئة وسوء الخلق، وأصبحوا ألعوبة في أيدي شياطين الإنس والجن. وما زلت أرى أثر هذه المخالفة الشرعية واضحاً في حياة وسيرة رجل نصب العداء لرجل آخر، واستمرأ سبّه وشتمه، ونزل إلى حضيض الخلق السيئ معه متوهماً غير الحقيقة، مستسلماً لوهمه هذا؛ حتى لم يدع مجالاً لتفكير صحيح، ورؤية صائبة، وخوف من الله، وحتى تحول هو باستعجاله وسوء ظنه، وسوء نيته، واضطراب قلبه إلى ظالم لصاحبه ظلماً بيّناً، وهو لا يزال واهماً أنه مظلوم، وهنا يبرز أمامنا نموذج من البشر يحتاجون إلى مراجعة نفوسهم والعودة بقلوبهم إلى أضواء حسن الظن، وإنقاذها من غياهب سوء الظن والحقد. أقارب تقاطعوا، وأصدقاء تنازعوا، وأحبة تباغضوا، وليس لذلك من سبب إلا عدم القدرة على مراعاة الجانب الشرعيّ في الخلاف والخصومة، وعدم القدرة على التخلص من الإصغاء إلى الأقوال الملفّقة والغيبة والنميمة، وعدم استيعاب معنى قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (سبابُ المسلمِ فسُوق)، ومعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. جاءني رجل ذات يوم وسرد لي حكايته مع صديق توثقت به علاقته سنوات طويلة، ثم انقطعت حبالهما بسبب كلام سمعه من صديق ثالث أصاب من قلب هذا الرجل مقتلاً، وصدّقه دون تثبّت، وأعلن العداء لصديقه بناءً عليه، وتضخّم الأمر في نفسه حتى أصبح يفسّر أيّ كلمة أو حركة تصدر عن ذلك الصديق تفسيراً منسجماً مع سوء الظن، ومطابقاً لمعنى نميمة ذلك النمّام. جاءني يريد أن أجمع بينه وبين صديقه الذي انقطع عنه سنوات، وأن أصلح بينهما؛ لأنه قد اكتشف - بعد هذه السنوات - كذب ذلك الصديق الثالث النمّام، وبراءة صديقه الذي قاطعه، وأساء إليه وعاداه وسبّه وشتمه، واغتابه في أكثر من مجلس. قلت لهذا الرجل: أرأيت كيف فعل بك الاستعجال والإصغاء إلى النميمة، والاستسلام لسوء الظن؟ إنها حالة من آلاف الحالات التي تحدث في حياة البشر، وهي حالات مرضية تحتاج إلى أن تعالج بالوعي والخوف من الله، والبعد عن الفجور في الخصومة، وحفظ اللسان عن بذيء الكلام، وسيئ القول. إن دور العقلاء من الرجال والنساء لدور كبير في علاج هذا الداء. إشارة (المُسلمُ مَن سلمَ المُسلمُون مِن لسَانهِ ويَده).