كنت كالشعب اللبناني تلك الليلة في عراء الحدائق العامة وفي وحشة الشقق المهددة بالقصف أعيش على شفى الاحتمالات، تعبث أبالسة السهر في عيوني بجبروت وطيش فلا أستطيع النوم من عنف القذائف الإسرائيلية التي تصبّ نيران الطلقات الأخيرة على الضاحية الجنوبية وكأنها تقيم احتفاءً متوحشاً يحاول أن يضاهي فاشية حربها على لبنان لاثنين وثلاثين يوماً من أعياد الذبح وأعراس الدمار وحفلات أفران الغاز. كانت تلك الغارات تمضي باستشراس يسابق الوقت قبل سريان وقف القتال، فلا تترك هبة هواء تفلت من دخان الحرائق، ولا تنسى طفلاً دون أن تهتك وداعة عينيه برعبها أو باختطاف روحه قبل أن يطلع نهار نهاية الحرب. وكنت كالشعب اللبناني ذلك الفجر المتوجس أقف حافية على أطراف أصابعي في رياح الحرب أتأرجح بين مرجة الرجاء وزمرد الأمل مرة، ومرة أتقلب على جمر اللحظات ولظى الرمضاء في انتظار الساعة الثامنة من يوم الاثنين 14-8 بتوقيت بيروت، علَّ صبحاً جديداً غير مجرح بحراب الحرب وبصراخات الفزع وبتطاير شظايا الأطفال ينجح في المرور عبر الجسور المنسوفة والطرقات المقطوعة والبحر المتفحم ليصل إلى أولئك الملوحين بشواظ التشرّد لما يزيد على شهر، وعلَّ شمس ذلك النهار المُشْتَهى تُعرج على شرفة بيتي المطفأة في هجير صيف الصحراء بالرياض. العمر أقصر من اللقطة أتبعثر على القنوات الفضائية لأقطع الوقت بسكين التكهنات ليس إلا، فكل ما أرى لا يعدو إعادة لشريط متقطع من حياة عشتها في زمان آخر في نفس المكان، أو حياة كنت أريد أن أعيشها بشروط مغايرة أو بجسد غير القفص. ألمح امرأة تشبه أمي تمرق بين ظلام القذيفة وبين التماعات العتمة، ألمح واحدة من أخواتي الخمس بنفس ضفيرتها الممتدة من أعلى رقبتها إلى كعبها تعبر شارعاً لم تنتبه أنه ثعبان فيلتوي على شبابها قبل أن تلتقط الكاميرا بقية المشهد. أسمع أصوات جدران الروضة المجاورة لجامعتي تطبق على الأطفال، وحبال الأطفال الصوتية تنصهر في ملكوت صمت شاسع. من صيف 82 إلى صيف 2006م تطل جثتي وتفز روحي كهامة تتعقبني، ربما لتحاسبني على إثم صبابات تلك الصبية الحرون التي كانت مثلي الآن لا تكف عن استفزازي بالأسئلة، فأنقسم بيني وبيني، نصف يبقى في بيروت يكتب على وقع قيامتها معلقات من قصائد النثر تضيع في حجرات قصية بالرياض، ونصف يركب الشاحنات إلى مفاجآت وفجائع المجهول وراء البحر، أما هي فتجلس في نفاسها الثاني محمومة بصدر متورم وأطراف متثلجة تجهش بالبكاء أمام ما كان يسربه خرم التلفزيون السعودي في الثمانينيات. وأنا بين تقيحات روحي التي لم أرضَ يوماً شفاءً لها من خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان وبين جموح روحي أمام هذه المقاومة الأسطورية اليوم في لبنان لا أحاول أن أتحرر من كمين المكان، ولا أتجرأ على أن أدرأ عني مكر الذاكرة إلا بمزيد من أحماض اللقطات الطازجة لحرب حرام تجرفني بعيداً عني فلا أدري هل أنا بالعراق أم بغزة أم بلبنان، وكأن العمر بين جيلي وجيلي أفعى تفصل أثوابها من قماشة أجسادنا فوجاً بعد فوج. أما مقاومتي القليلة فهي ألاَّ أريح لوحة المفاتيح، ولا أغلق شاشة الكمبيوتر وأشعتها تعتدي بجور واعتداد على ما تبقى من ماء الشباب في وجهي، فلعل على الأقل لا تنعقف أصابعي في مخيلتي رغم ضراوة الإشعاع وشدة العماء. نصر فتيّ في هزائم مزمنة تشبه اشتعالات الذكرى عندما نشم كولونيا الحب الأول، فللنصر رائحة نصلية تشق اندمالات الجرح وتتغلغل في الجهاز العصبي، إلا أن مَن يدمن الهزيمة يصعب أن يستنشق رائحة النصر. أسمع أصوات القوميين العرب والناصريين والبعثيين والليبراليين وبقايا اليسار واليسار الطفولي والإخوان ومن كانوا شيعيين ومن أتوا من أقصى اليمين أو بقوا يمينين أو من يتذبذبون بين أكثر من بندول، أسمع المحافظين الجدد تفح حناجرهم وحناجر مستعارة منا، أسمع الإسلاميين والمتأسلمين، أسمع المستنيرين والظلاميين يقرؤون قرار الحرب، يقرؤون التسويات، يقرؤون النسخ المتَّسخة من المشروع الأمريكي للشرق الأوسط ومسوداته الجديدة المبيضة بالدم العربي كأموال المافيا، يقرؤون قرار وقف الأعمال الحربية للقرار 1701 بنفس عجز قوم الزرقاء عن قراءة شفرة الشجر. وفجأة تخمد الأصوات، تقف رحى التحليلات المتضاربة المتحدية والمهادنة والمستسلمة، ترتخي قبضة القاتل عن المدية الملطخة، ترفع الحياة المدنية رأسها من تحت أنقاض الأرواح ومخابئ الصبر والرعب وركام المباني وبقايا القتلى، ويسري في أوصال البلاد ما يشبه رعشة ودهشة العودة من الموت. تضج حركة السير، سيارات محملة بالناس، وناس يحملون جراحهم وأثاثهم المؤقت ولوعة الفقد وطعنات الجوع وقطعاً من كوابيسهم و(علب تونا) و(حمص وفول) ونتفاً من أحلامهم، يحملون قروح أرواحهم وأطفالهم أو أطياف أطفالهم ويعودون باتجاه الجنوب وهم يرفعون أيديهم بعلامة النصر. أركض إلى مرآتي، أمشط شعري الذي تعقد لعدة أسابيع، أبحث عن مرود الفضة أتكحل، ألبس فستاناً بحرياً وأقراطاً فيروزية، أشعر بشوق لكتابة الشعر، أزيح تلك الستارة الكالحة التي كانت طوال أيام الحرب تراودني ككفن قريب، تدخل شمس برج الأسد بغرورها الصحراوي إلى مساميّ وكأنني أريد أن أتطهر بها من خطيئة، أفتح غرف أبنائي أوقظهم من نوم للتو ذهبوا إليه كما أفعل صباح العيد، لا أريد لشاعرية هذا المشهد وقشعريرته أن تفوتهم، فمن يدري متى يتسنَّى لنا مثل هذا الزهو مرة أخرى، وكنا قبلها لا نعرف من بهاء الانهيارات إلا زهو الهزيمة. من أسرار المشهد لم أتعوَّد أن أحسن الظن بالقرارات الدولية عندما يتعلق الأمر بعلاقة إسرائيل الإبادية بنا، في نفس الوقت لا أستطيع أن أبرِّئ تماماً الحملان من صمتها، والإخوة من مسؤولية ضياع يوسف، وإن كانت العين مهما بالغت في التودد للعمى، واستماتت في عشق الأعداء أو (تقيتهم)، لا تخطأ في أن إسرائيل وصلت بقواتها البرية أمام المقاومة مرحلة من انكشاف الظهر والأحشاء صارت معها تريد وقف الحرب والخروج من وحلها الذي حفرته بأي ثمن أو ربما بأثمان مؤجلة. أمسح عن جبيني وساوس الخوف من هيبة الخيبات، آخذ نفساً عميقاً كأني أخرج من قارورة الوقت بعد أن كادت تتليف رئتي من نقص الأوكسجين لشهر ويومين. وإيغالاً في الدخول إلى نرجسية مشهد الاتجاه إلى الجنوب بجروح متكبرة، وإمعاناً في الانتقام من تواريخ النكسات وتقوس حبالنا الشوكية من كثرة الانكسارات؛ أشد قامتي لأمشي مع الذاهبين باتجاه نهر الليطاني. ألاحظ من ظلي المنعكس في سواد الماء بأني طُلْت قليلاً، وبأن عربات الساعة لا تشدني عكس عمري، بينما يساورني غرور أنثوي لا أكابره بأنني صرت أجمل، وبأنني صغرت عشرين سنة. هل حدثت كل تلك النشوة الماحقة بتأثير راح الشعر، أو أنه بعض صبوات ما أتخيل كتابته في قصيدتي الأخيرة. كنتُ على استعداد لأتوهم ذلك، فعندي استعداد مكتسب للسوداوية ولماشوسية انتحارية، وبخاصة حين تأخذني على حين غرة مشيئة الكتابة وتشدني بخيوطها الغامضة الخفية إلى هاويات متهورة، غير أنه ما أن مس مشط قدمي تراب الضاحية والقرى الجنوبية، وتعمدت برائحة الزعفران النافر من دم مَن بذلوا مُهجهم على مذبح حبها النفاذ؛ إلا ولمست أكاليل نصر شامخ لا يكترث إن تجنَّبته الكاميرات. سلام سرمدي للبنان لأرض لبنان سلام يكيد للحرب بالحب، وللقتل بالحياة، وللاختلافات بالحرية، مثلما تكيد الأشواق للمسافة، ويكيد البوح للوشاية، وتكيد الكرامة للهوان، وتكيد الكتابة للحتوف اليومية الصغيرة. حارة حريك/ الضاحية الجنوبية قلت لنفسي وهي تنشطر مني وتغوص في فجيعة الركام من قصبة ساقي إلى ترقوتي: من يستطيع تجاهل أن شهد المشهد الشاهق جنوباً معفر بألغام الاستغاثات التي تيبَّست على شفاه من باغتتهم الغارات بينما كانوا منهمكين في الحياة، فلم يشفع للأطفال ملاعبهم البعيدة عن بؤر المقاومة، ولم يشفع لعروسين انغماسهما في فراش شهر العسل، ولم يشفع لامرأة انشغالها بنشر الغسيل على السطح، فربما ظنّت الطائرات أنها سارية لمرفأ أو منارة لمسجد. لم ترأف القنابل بأرفف المكتبات، ولا بأواني المطبخ، ولا بإبريق الوضوء، ولا بصحون الفاصوليا والمجدرة والتبولة ولفة الخس مصفوفة على (طبلية) العشاء، فقد شكلت مكونات تلك المائدة غريماً حضارياً لشهوة الدماء، مثلما كانت رقصة الدبكة الجماعية وإيقاع الأوف والميجانا وقداس الكنائس عدواً تاريخياً لجناز القتل الجمعي. كأن ذلك الإيقاع الهادئ لموسيقى الحياة العادية على أرض لبنان هو بعض ما أثار غريزة التشفي في الذئب، لكن الحارة المنكوبة بهمجية العدوان تكتب ذاكرة جديدة بما تكسر من زجاج، بما تمزق من ألبومات الصور، بما سيعاد تسميته من أسماء الأطفال الذين رحلوا للأطفال الجدد، وعلى ما تبقى من دفاتر صغار التهمتهم أفران الغاز النازية أحياء فلم يموتوا كما ينبغي. عيتا الشعب اسم واقعي أو شعبي ربما أطلقه بعض سكان القرية على ذلك الجزء النابض من قلوبهم على عجل ودون تفكير مسبق في إلهامته الشعرية؛ فإذا بالرؤية تصدق وتدخل عيتا الشعب أسطورة الملاحم الشعرية ببيوتها التي سُوِّيت بالأرض، وبهامات أهلها التي لامست السحاب في نفس لحظة الغارات وتقدّم وحوش الدبابات. الغازية أعرف تلك الغافية بجبروت جمالها بين رابية وساحل كما يعرف بحار جَرحه حنين اليابسة ملمسَ الحنان في حورية البحر، أعرف بسمات نسائها المغموسة بدبس الخروب والرمان، أعرف أفراس البحر التي تسهر على قناديلها الناعسة فيما الناس ينامون باكراً، أعرف رائحة أفرانها ومذاق خبزها الحراق وأكف أهلها السخية، أعرف مغمضة العينين تفاصيل ملامح صباياها بتول وحنين وليلى ولبنى وإيمان وسهيلة وسوسن وسماح عندما يمرون في الخيال، إلا أن ما لم أحدسه هو أن يضاف إلى تلك الأسماء الحميمة اسم سحر؛ تلك الصبية الصغيرة التي خرجت من ركام بيتها بعد البقاء 16 ساعة تحت ردم الغارات، كأن موهبة سحر في عناد الموت بالحياة رمز آخر لشموخ هذه البلدة الصغيرة في وجه الغزاة كبقية قضاء صيدا والنبطية. صور من التاريخ تفز صور مليحة تنفض ملح البحر عن أرواح ساكنيها، فتخرج من بين جناحيها الحليبين أليسار، فهل غير الغازين من لا يستحي من بطولاتها التاريخية ليحولها في لمح البصر إلى محضن لمقابر جماعية للمدنيين والأطفال؟! قانا لماذا يا قانا يباغتك الغدر بمذبحتين في عمر واحد؟! مَن اختارك ختماً يخر دماً لخاتمة القرن العشرين؟! مَن رشَّحك ختماً يرشح لحماً محروقاً لمطلع قرن يجدِّد شباب الحروب بحرير أطراف أطفالنا؟! مَن أغرى الغازي بزغاليل قانا؟! وقانا كليمة الدم لا تصمت ولا تجيب قانا لا تنتحب ولا تهز أهدابها المظاهرات أو هرواتها قانا لا تنتظر زعاف اعتذاراتنا ولا تقبل عزاءنا تقلب عناقيد الغضب بين ندى يديها تقلب الأرض عن بقايا بنات وأولاد كانوا يلعبون قبل قليل تطهر الهواء من لهاثنا تغسل الماء من دموعنا تنقي دمها من تلوثنا وبعينين مشرئبتين إلى ما لا نرى تشير إلى نعوشنا المسجات من المحيط إلى الخليج أخجل من نخل الجزيرة من براعم غزة لم تينع بعد وتقتطف تحسباً أخجل من أرزة تؤنسها وحشتها أغذ السير جنوباً بلا قدمين أرى موكباً للنصر توازيه مواكب للكبوات أمد يدي أغمض عيوني المندلعة على الخارطة بيدي وآخر ما ألمح رقم سبعة، لعله سقط من أسنان القرار الأخير أو لعله حرف V يفر منا خشية أن نخون كلمة السر التي يرمز إليها. [email protected]