مالي مررت على القبور مسلماً قبر الحبيب فلم يرد جوابي يا حبيب مالك لا تجيب منادياً أمللت بعدي حلة الأصحابِ قال الحبيب وكيف لي بجوابكم وأنا رهين جنادلٍ وترابِ وفي الأثر قيل: (عش ما شئت فإنّك ميت واحبب من شئت فإنّك مفارقه) بدأت حديثي وسطّرت أحرفي، وأسلت قلمي، واعتصرت فؤادي وناديت خيلي وركبي، هل ستسعفني هذه الكلمات؟ وماذا سأكتب؟ وكيف! وبماذا سأبدأ؟ وكيف أستمطر غور قلبي المكلوم، وأقول أمطر عليّ يا قلبُ بما تعرف وبما تكنُّ وتضمر ولا تخف ولا تحزن. ويا عينُ اسكبي الدمع مدراراً وتألَّمي على فراق سوادك الذي به تبصرين .. واحزني يا عين على حبيبتك وبهجتك ونورك ورمشك فلا ألومُك، فبفراق نور العين حق لها أن تحزن، ويا عين فلتبكِ ولتذرف الدمع .. ويا فؤادي المجروح استسلم للقضاء وسلِّم للقدر تفز بقول سيد البشر صلى الله عليه وسلم (فمن رضي فله الرضا). ويا قلم اكتب، وأنر حروفك بهذه السيرة العطرة. إنّ والدتي - رحمها الله وقدّس الباري روحها ونوّر الله ضريحها - لم تكن بالنسبة لي ولإخوتي أماً فقط، بل كانت كذلك وزيادة، ولا تستنكر النفوس والقلوب أن تكون أسيرة لمن تحب وتعشق، أو تكون كذلك لمن كانت سبباً بعد الله في هذا الوجود في وجوده. ومحبة الولد لوالده ولوالدته محبة فطرت عليها القلوب والنفوس السويّة، حتى البهائم على الأرض تقدِّس والديها .. من صنع هذا؟ إنه العزيز الحكيم .. فقد كانت والدتي - رحمها الله - أماً مثالية أمينة أُميَّة لا تقرأ ولا تكتب لكنها نالت الدرجات العالية في حسن خلقها ورقي معاملتها، برّة بوالديها طائعة لزوجها، توقِّر من يكبرها، ورحيمة بمن يصغرها، تخطف القلوب بصفاء قلبها، وعذوبة منطق لسانها، راوية الحنان، وعندها فيض منه تشمل كلَّ من رأته ورآها .. عاشت سنيات قليلة لم تتجاوز الخامسة والأربعين خريفاً، ولكن أجلها قد حلَّ وأذن الله لملاك الموت أن يقبض روحها الزكية .. فالمرجع إلى الله والمآل إليه: والموت كأس وكل الناس شاربه فليت شعري بعد الموت ما الدار؟ وقال زهير: وكل ابن انثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول ولكني وإخوتي بفقد والدتي منذ ما يربو على خمس سنين، فقدنا صدراً دافئاً، وكياناً صابراً .. مدرسة في الصبر والجلَد والتحمُّل وزادت من جميل خصالها فلا تتسخَّط وإن كانت في ضيق يعتصرها وألم مرض ينهشها، أو همٍّ نزل بها يوم تراها لا تشعرك بشيء .. ملئت عقلاً وجلَداً، حسنة المظهر، نزيهة نظيفة فائقة في ذلك - نفسها - بيتها - أولادها..!؟ كلها أدب معنا - لا تسمع منها القبيح، لسانها حكيم، حصونة اللسان والجنان .. أحبَّها أقرباؤها وجيرانها، وإخوتها - بل وخدمها .. جميلة المعشر، فائقة الحنان، قريبة الدمع - عطوفة - سليمة القلب - تقابل الإساءة بالإحسان. بماذا أحدثكم وعن أي شيء أحكي لكم فالقلب حزين، والقلم تارة يسبق الفؤاد والخاطر، وتارة العكس وفي ذلك يتنافسون ولا لوم عندي في ذلك فالكل معذور. وإني لأعجب حين أعجب أني وإخواني كلٌّ واحد يشعر بأنها - رحمها الله - أمٌّ له وحده .. يعجبني ما يطريه الناس فيها، وأفتخر بذلك، فهي ليست أماً لي ولإخوتي وحدنا فقد كانت - قدَّس الله روحها - أماً لغيرنا كثير، أماً لأخواتها، وأقربائها، وأماً للفقراء والمعوزين .. تنهمر دموعها لبكاء كلِّ مكلوم، وإني أعجب من بساطتها ورقة مشاعرها، عالية الجود والكرم، منفقة كالسيل العرم ما بين صدقات وزكوات وهدايا. هذا غيض من فيض، وقطرة من بحر، وزهرة من جنان خضراء مزهرة. ولقد ودّعنا بوداعها أُمّة حنونة، وشعباً مفضلاً .. ودّعنا بوداعها لمسة ساحرة وملاذاً دافئاً. ودّعناك يا أمي وكلِّي أمل أن يكون ما خطّته أناملي الخاطئة قربى أتقرّب بها إلى الله عز وجل، ودّعناك يا غالية الوجود راجياً من المولى عز وجل أن يشملك برحمته وجميل عفوه. ويعتصر فؤادي حزناً وألماً يوم فراقها أن سُد باب من أبواب الجنة وطريق ممهد مستقيم إليها، فليت شعري معونة منك يا رب تعوِّضني وإخوتي وكلَّ من فَقَد والديه باباً آخر إلى الجنة يا رب. ويا قارئ أحرفي برّ والديك قبل أن يُحرق قلبك بفقدهما، برّهما قبل أن يلتهب فؤادك بالنار مستعراً حسرة وندامة على باب إلى الجنة لم تطرقه، وطريق إلى رضا الرحمن لم تسلكه، فالأجل مكتوب والدين مردود، ولا ينفع يومئذ الندم. رحم الله موتى المسلمين، وغفر لوالديَّ وأسكنهما فسيح جناته، وافسح لهما في قبريهما ونوّر لهما فيهما .. اللهم اجمعني وكلَّ مسلم بوالديه في مقعد صدق عندك يا مليك يا مقتدر وأعن كلَّ مسلم على برِّه بوالديه، وسامحني وإيّاهم على كلِّ تقصير ورَدَ أو قد يرِد يا ما ملك الملوك. فلا جزع إن فرق الدهر بيننا فكل فتى يوماً به الدهر فاجع وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع