مللت من قفو الصحف والمجلات، والتنقل بين المواقع والقنوات، لاستشراف معارك كلامية حامية الوطيس، وقودها الأعراض وقالة السوء. وأدمى مقلتي استشراء المغالطات، وتحريف الكلم من بعد مواضعه. وضقت ذرعاً من أغيلمة تسودت المواقف والمواقع بما هي عليه من ضعف وجرأة وسوء أدب، حتى لكأن أحدهم ممن تبرأ منه (الشنفرى) بقوله: (وَلَستُ بِعَلَّ شَرُّهُ دونَ خيرِهِ ألَفَّ إذا ما رُعتَهُ اهتاجَ أعزَلُ) وكلما أحسست باستفحال البذاءات والتطاول على الأوفياء وذوي الكفاءات، واستشراء قول الزور، أو نظرت إلى الواقع العربي المرير، والكرامة العربية المعفرة تحت أقدام الأوغاد الممجدين بأقلام المسحوقين، لذت بمكتبتي، وجالست كتب التراث اللاهية غير العازمة، (وخير جليس في الزمان كتاب)، والموسوعيون الجادون إذا أضناهم عناء البحث، وأرهقتْهم معاضلة العَصِيِّ من المسائل، وأوغلوا في مفازات الجد العنيف، وللوا وجوههم شطر السخرية والساخرين لتخفيف العناء وبرد الأكباد، فكان أن جمعوا الأخبار، وألفوا الحكايات، وتعقبوا الظرفاء وذوي العاهات، وليس هناك أنكى من سخرية ذوي العاهة. والتراث العربي زاخر باللهو البريء والعبث الماجن، ومطارحات الأدباء مجال رحب للتسلية. نجد ذلك عند (الجاحظ)، وجحوظ العين عاهة، وعند (أبي حيان) الممرور النكد الذي أحرق كتبه، ورعى مع الأنعام، وعند آخرين عنوا بذوي العاهات، وبالحمقى والمغفلين وبالمفلوكين. ورصد مثل هذه الظواهر يوفر مادة معرفية، لو أهملت لضاعت مع ما ضاع مما أهمله التاريخ، وعناية الأدباء الساخرين بالسخرية وبذوي العاهات، كشفت عن خصائص نفسية وحسية، لو تعقبها علماء النفس، لخروجوا بنتائج مثيرة، واكتشاف السمات والخصائص لذوي العاهات، وجد فيها أصحاب المناهج الحديثة مادة مشوقة ثرية، لا تقل فوائدها عما وسعته كتب التاريخ وتاريخ الطبقات والمدن وسائر العلوم. وتراث الأمة العربية يفيض بما لا يخطر لأحد على بال، واستعراض فهارس المخطوطات والمطبوعات يثير الانتباه، وإشكالية القارئ المعاصر في تعالقه مع المستجد الذي حال بينه وبين تلك الثروات المعرفية التي لا تقدر بثمن، والمحروم من قطع صلته بثرات أمته، ولا سيما الجانب الهازل منه، فما وسعته تلك الكتب، يروِّح عن الأنفس الكئيبة، ويستل السخائم، ويُذْهب الحزن. و(الجنون) في العصر الحديث أصبح معادلاً طبيعياً للعقل والعبقرية، ولم يعد ظاهرة غير طبيعية، ويبدو أن (الوجوديين) تداولوه، وأن (الحداثيين) بسطوا القول فيه، وكنت أمني نفسي بتقصي أسباب العناية بالجنون كمصدر من مصادر الإبداع، وعلاقاته ومعانيه (الفيسيولوجية) و(الميتافيزيقية) و(السيكولوجية) وتصنيفاته، ولا سيما أن عدداً من المبدعين صنفوا مجانين أمثال (ديكنز) و(فان جوخ). ولما ضقت من لغط المشاهد ونتن المواقع، نظرت إلى حقل ذوي العاهات والأدب الساخر والظرفاء في مكتبتي، فوجدت الكتب الممتعة الجادة والهازلة، يتصدرها كتاب الجاحظ (البرصان والعرجان والعميان والحولان)، وكان لهذا الكتاب منزلة في نفسي وذكرى، فلقد نزل إلى المكتبات، وأنا طالب في قسم الدراسات العليا في (كلية اللغة العربية) بجامعة الأزهر، حيث أشادت به الصحف المصرية، وقدمت مقتطفات منه، فما كان مني إلا أن تحاملت على نفسي، واشتريته على الرغم من شح ذات اليد، وصعوبة النقل والخوف من عين الرقيب يوم أن كانت له عين كعين زرقاء اليمامة. فالطالب لا يقدر على توفير متطلبات الدرس من المراجع، ولا سيما أن طائفة من الأساتذة في قسم الدراسات العليا، يقرر الواحد منهم أكثر من عشرة كتب من مؤلفاته المجمَّعة على غير نظام، كمراجع لمادة واحدة، ولقد فعلها الأستاذ الدكتور (محمد عبد المنعم خفاجي) رحمه الله، وما أن ظفرت به، قرأت أطرافاً منه في (مقاهي النيل) يوم أن كانت لها مذاقات عذاب، ولقد تحدث عن (الصُّلْع) و(القُزْع) وأمتع باستطراده المعرفي الواسع. وهذا المخطوط من أندر كتب الجاحظ، لفقده، إذ لم يوجد منه إلا مخطوطة واحدة في المغرب بعد العناء في البحث، اكتشفها الدكتور (عبد الهادي التازي) ولقد سرد قصة العثور عليها، وتحدث عن دور العلماء المشارقة الذين طافوا مكتبات المغرب للبحث والتنقيب عن نوادر المخطوطات، ومن أهم المهتمين بالتراث العربي علامة الجزيرة الشيخ (حمد الجاسر) رحمه الله، الذي نشر مقدمته في مجلة (العرب) عام 1388ه. الجاحظ جعل متكأه كتاب (الهيثم بن عدي)، الذي تقصى عاهات الأشراف، للتنقص والتندر، وهو معدود من الشعوبيين، و(الجاحظ) وإن اتهم بالشعوبية، إلا أنه ميال إلى السخرية، ليس غير، ولم يكن كما (الهيثم بن عدي) الشعوبي القح الذي عمد إلى جمع مثالب البيوتات العربية، ك(المثالب الكبير)، و(المثالب الصغير)، ولست معنياً بمقاصد (الجاحظ) أو (ابن عدي)، فما أريد إلا إمتاع نفسي بقراءة أطراف من هذه الكتب التي تتحدث عن ذوي العاهات والظرفاء، وتجلي السخرية العفوية في تصرفاتهم، وتكشف عن أمزجتهم ونظرتهم للمجتمع من حولهم، وتميز بعضهم بالذكاء الخارق والخفة والتفاؤل، و(الشعوبية) مصطلح مأخوذ من آية (الشعوب والقبائل)، حيث ذهب بعض المفسرين، وليس للمصطلح علاقة بمصطلح (شعبوي)، والحديث عن (الشعوبية) عاد أثناء (حرب الخليج) الأولى، فألفت الكتب، وعقدت الندوات, ونبش عفن التراث، ثم طويت صفحته، وهكذا شأن مسارح الدُّمى، ولقد شهدت ستة (مرابد) في بغداد، لم ينفك واحد منها من الحديث عن (الشعوبية)، والحديث عن ذوي العاهات يذكرنا بنوادر المخطوطات والرسائل، مثل (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، و(رثاء الحيوان في الشعر العربي) و(القول في البغال)، (العققة والبررة) و(المردفات من قريش) و(شري الرقيق وتقليب العبيد) ومؤلفات عن (البئر، والريح، والشاء، والضب) وكلها ممتعة ومفيدة. ويلي (الجاحظ) بالاهتمام بذوي العاهات (الصفدي)، الذي ألف كتابين هامين هما: (نَكْتِ الهميان في نُكَتِ العميان) و(الشعور بالعور)، وكل الحكايات والقصص ترتبط بنوع العاهات، وذووا العاهة يختلفون عن الظرفاء والطفيليين والحمقى والمغفلين والمجانين والفلاكة والمفلوكين، وإن كانت نوادرهم متقاربة، وقد امتاز في الحديث عن أولئك (الخطيب البغدادي) و(ابن الجوزي) وله ثلاثة كتب و(الحصري القيرواني) و(النيسابوري) صاحب (عقلاء المجانين) و(أحمد الدلجي). وفي العصر الحديث تغيرت الاهتمامات والمقاصد، فلقد صدر أكثر من كتاب عن ذوي العاهات، ولكنها دراسات عازمة، تجلي أثر العاهة في الإبداع أو في النبوغ، ومما صدر في هذا الشأن كتاب (العلماء والشعراء والأدباء العميان) ل(خازن عبود)، وهو كتاب يعتمد المنهج التاريخي أما الدراسات المعمقة والساعية وراء استجلاء خصوصيات ذوي العاهات، فمنها كتاب (الخيال والتصوير في شعر المكفوفين) للدكتور (محمد بن أحمد الدوغان)، وهناك فرق بين من يسدعي ذوي العاهات لإبراز خصوصياتهم السلوكية، وانعكاس العاهة في التصرف والتصور، ومن يستدعيهم للتندر والاستمتاع، وسعي الموسوعيين أمثال (الجاحظ) و(ابن الجوزي) و(البغدادي) و(الصفدي)، للتندر والسخرية، وقد تكون هناك دوافع أخرى, كما هي عند (ابن عدي) و(أبي حيان) الذي تحدث عن المثالب، وهو حديث مسف، وثقيل على النفس بفحشه المقذع، وحقده الدفين. والعاهة لا تكون معوقاً، كما أنها ليست عيباً يعاب به المعاق، ولا يجوز النيل من ذوي العاهات بعاهاتهم، فالله الذي ابتلى من يشاء، وعافى من يشاء، قادر على أن يعافي المبتلى، ويبتلي المعافى، والماعق يحس بالضعف والدونية، فيحاول إثبات قدرته، بتحديه للأصحاء، وكم من مُعوِّق فاق الأسوياء، ومن الكتب الحديثة التي أبرزت أثر العاهة في التحدي كتاب (عظماء ومشاهير معاقون غيَّروا مجرى التاريخ) للأستاذ (أحمد الشنواني)، وقد استهله بالكلمة المأثورة (كل ذي عاهة جبار)، ولقد ذكر أطرافاً من سيرهم ومنجزاتهم، فمن العميان (المعري) و(أحمد التطيلي) و(طه حسين) و(عبد الله البردوني)، ومن غير العرب (هوميروس) و(هلين كيلر) و(جون ملتون)، وممن يعانون الصمم (بيتهوفن) و(هيلين كيلر)، فهي صماء وعمياء. ولأن العبقرية صنو الجنون، فقد أصيب عدد من العباقرة بالجنون، ك(نيتشه)، ومنهم من ينتابه القلق والهستيريا ك(كانط) و(هتلر) و(نابليون). وكشف خبايا حيوات المشاهير المعاقين ممتع، لأنه يكشف عن سير أسهمت في تغيير مجرى التاريخ، وبعضها حيوات مضطربة وغير سوية. وكما أشرت فإن هناك دراسات جادة عن ذوي العاهات والظرفاء، ليست على شاكلة كتب التراث، ومن أجود ما قرأت في هذا الصدد (الصورة البصرية في شعر العميان)، وهي دراسة علمية، كما يشير مؤلفها الدكتور (عبد الله المعافري الفيفي)، تتقصى الخيال والإبداع عند عدد من العميان، ك(بشار) و(المعري) و(التطيلي) و(الحصري) و(العكوك) و(البردوني) ومن بعده كتاب (الدوغان)، ومن قبل هذين (الصورة في شعر بشّار بن برد) للدكتور (عبد الفتاح نافع)، والدراسات الحديثة لذوي العاهات تقوم على المنهجية والتقصي لخصوصيات المعاقين في الإبداع الفني. ومع أنني لست حفياً بهذا النوع الجاد، إلا أن متكأ الدارسين ينطلق من انعكاس العاهة على الأداء، وكتب التراث تعوِّل على السخرية والفكاهة، وتحاول إبراز ما يمتاز به المعوق في قوله أو فعله، وأثر العاهة على نفسه وعلاقاته بالآخرين، أما الحديث عن الظرفاء فهو أميل إلى جمع الأخبار، وذلك ما كنا نبغي في ظل الظروف الضاغطة في السياسة والإعلام. ولقد كنت من قبل أحسب أن كتاب (مذاهب ذوي العاهات) للأستاذ (عباس محمود العقاد) من هذا الصنف، ولكن تبين لي بعد الرجوع إليه أنه يقصد بذوي العاهات منشئي المذهب الشيوعي من اليهود المتصهينين، فالكتاب يركز على الشيوعية والشيوعيين، وهذا المذهب الذي شغل (العقاد) ردحاً من الزمن، وحمله على إنجاز أكثر من كتاب، ثوى في مزبلة التاريخ، بعد أن شغل العالم والعلماء سبعة عقود، ويعد كتابه هذا من أعنف كتبه، فهو مجموعة مقالات قصيرة عن الشيوعيين الذين سحروا أعين الناس واستمالوهم، و(العقاد) يقصد العاهات النفسية والخلقية، وهي بعض ما تقصاها (يوسف ميخائيل أسعد) في كتابه (العبقرية والجنون) وهي بلا شك ماثلة للعيان عند ذوي المذاهب الهدامة والأفكار المنحرفة، وسيكون لنا حديث مبسوط عن (ثقافة الإلحاد)، نبرز من خلاله ارتباط العاهات النفسية بالإلحاد. وتقصي أحوال المعاقين وحيواتهم، والاستمتاع بقراءة هذا النوع من الكتب، يثير عند الإنسان مشاعر متعددة، لأنه يقف به على خصائص نفسية، وتصرفات غريبة، ومواقف مثيرة، قد تقوده إلى امتلاك مفاتيح لشخصيات انعكست آثار العاهات على نفوسهم، ثم تجلت في تصرفاتهم، وما كان لي أن أجنح إلى الجد في تقصي تلك الظواهر، وإلا فإن الدراسات الأدبية لإبداع العميان تنطوي على نتائج مثيرة. والذين تلمسوا أثر العمى على أسلوب (طه حسين) أبدعوا في التقصي والتجلية. وكما أشرت فإن الهروب إلى هذا اللون من المؤلفات للراحة، لا يتوافر إلا في كتب التراث عند (الجاحظ) و(الصفدي) و(أبي حيان) و(ابن الجوزي)، وما تنطوي عليه هذه الكتب لا يقل إمتاعاً عما عند الظرفاء العرب، في كتاب (ظرفاء العرب) بأجزائه الثلاثة، وكتاب (التطفيل) للبغدادي). ومما يلفت النظر تخطي المنطق والمعقول والمسموح به في رواية القصص والحكايات عن الظرفاء والمغفلين، ولقد خُصَّ بعض أولئك بدراسات مستقلة ك(أبي العيناء) الذي جمعت نوادره في كتابين أحدها لمعالي الشيخ (محمد بن ناصر العبودي)، و(عبد الحميد الديب) شاعر البؤس الذي كتب عن نوادره (محمد رضوان) و(عبد الرحمن عثمان) و(أبي الشمقمق) الذي كتب عنه الدكتور (محمد بن سعد الشويعر) على ما أذكر، و(الأعمش الظريف) للدكتور (أحمد بن محمد الضبيب)، والحديث عن الظرفاء والحمقى والمغفلين والمفلوكين والمتطفلين يتداخل مع الحديث عن ذوي العاهات، ولكنه دخول من طرف خفي، ولو استدعينا الكتَّاب السَّاخرين ك(المازني) و(السعدني) و(مارون عبود) لبعدت علينا الشقة. بقي أن أقول إن هذا الزمن الضاغط بفضل أدعيائه الكتاب ومتغطرسيه الساسة بحاجة إلى الترويح عن النفس، وتخفيف معاناتها مما تلاقيه من إحباطات على كل المستويات.