أعرف أن الحديث عن الموت حديث غير مرغوب فيه.. ولكن قبل أن تقلب الصفحة اسمع ما قاله نزار قباني عن الموت: والموت في فنجان قهوتنا في مفتاح شقتنا وفي أزهار شرفتنا وفي ورق الجرائد.. والحروف الأبجدية.. وقبل أن تقلب الصفحة وتتشاءم من حديثي عن الموت دعني أسأل، ولك أن تتساءل معي وتسأل: هل تعرف لماذا أصرَّ الحطيئة أن يموت على ظهر حماره؟ ومن هو الشاعر المغربي الذي استهجن الخوف من الموت؟ وماذا طلب أبو فراس الحمداني من ابنته أن تفعل بعد موته؟ وهل حقاً سئم لبيد بن أبي ربيعة طول حياته؟ ولماذا طلب عمر أبو ريشة من زوجته أن تتجلد أمام أشقائه؟ وهل اتَّفق الشعراء على حب الحياة؟ هل من بينهم مَن رحَّب بملك الموت؟ ومَن هو شاعر الموت الذي رأى في موته انتصاراً له على الحياة؟ ومتى كان الموت شفاءً والمَنِيَّة أُمنية؟ ولماذا بكت الخنساء بحرقة على أخيها صخر وقالت فيه ما لم تقلْهُ في أولادها الأربعة الذين استشهدوا؟ وكيف يعمي الحزن بعض الثكالى فتطلب الموت للآخرين وتتمنى أن تتحول كل الأرض إلى مقابر؟ نعرف أن من الشعراء مَن بكى زوجته فهل تعرف الشاعر الذي بكى جاريته؟ إن شئتَ الآن فاقلب الصفحة، لكنني أنصحك أن تتابع معي قراءة هذا الموضوع؛ فقد يكون الحديث عن شيء مُرٍ حديثاً ممتعاً، والحديث عن الأمور الحلوة مُنْزَعاً بالعلقم والمرار.. لا تخفْ، تابع.. لن يموت أحد قبل ساعته. لا أحد يكره الحياة * يكاد يكون القاسم المشترك بين كل الناس حبهم للدنيا، وهو ما يصوِّره أبو العلاء المعري في قوله: نحنُ البرية أمسى كلنا دنفاً بحب دنياه حُبًّا فوق ما يجبُ وفي مكان آخر يقول: لو أن عشقك للدنيا له شبحٌ أبديته لملأت السهل والجبلا * ولا يرى المتنبي في قائل أفٍ من دنياه أنه يعني الدنيا: وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملَّ حياةً وإنما الضعف ملاَّ آلة العيش صحة وشباب فإذا ولَّيَا عن المرء ولَّى * وهذا أبو زيد الشاعر الكبير محمد بن أحمد السديري يقول: لولا الهرم والفقر والثالث الموت يا الآدمي بها لكون يا كبر شانه وهذه، وغيرها كثير، دليل على حبِّنا للحياة وخشيتنا من الموت.. ولكن.. ولكن: هل حقاً هناك مَن يبحث عن موتٍ يُباع ليشتريه؟! * ويعلن على الملأ أنه قد سئم من الحياة.. فهذا لبيد بن أبي ربيعة يقول: ولقد سئمتُ من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ وقد يكون لبيد معذوراً في هذا؛ حيث يذكر بعض الرواة أنه عاش مائة وسبعة وخمسين عاماً. * وشيئاً من هذا نجده في يائية الشاعر المغربي الدكتور المهدي بن عبود بعنوان: (سلاماً ملاك الموت) يرحب فيها بملاك الموت الذي يرى في مجيئه حلاً لما آلت إليه الأمور والأوضاع، ومن بعض ما جاء فيها: سلاماً ملاك الموت ما جئت شاكيا أيشكو جوار الحقِّ مَن كان راضيا؟! أيشكو فراق العصر والعصر منذر بتدمير ما قد يكون بالأمس بانيا؟! أيشكو فراق الأرض والأرض مرتع لمن باع للأهواء قلباً مُرائيا؟! * ويبدو أن رهبة الموت لا تُخيف البعض، فهذا ابن سناء الملك يقول: سواي يهاب الموت أو يرهب الرّدى وغيري يهوى أن يعيش مُخَلَّدا ولكني لا أرهب الدَّهر إن سطا ولا أحذر الموت الزُّؤام إذا عدا * بل إن هناك مَن يتمنى الموت في سبيل الوطن ويردِّد مع أبي القاسم الشابي: إلى الموت يا ابن الحياة التعيس ففي الموت صوت الحياة الرّخيم إلى الموت إن عذَّبتك الدهور ففي الموت قلب الدهور رحيم * بل إن هناك مَن يبحث عن موت يُباع ليشتريه: ألا موت يُباع فأشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه إذا أبصرت قبراً من بعيد وددت لو أنني فيما يليه!! * بل هناك مَن يرى في موته انتصاراً له على حياته.. إنه بدر شاكر السياب الذي يسمِّيه البعض بشاعر الموت لكثرة ما كتب عن الموت خلال فترة مرضه التي طالت؛ حيث يقول: فيدلهم في دمي حنين إلى رصاصة يشق ثلجها الزؤام أعماق صدري كالجحيم يشمل العظام أود لو عدوت أعضد المكافحين لأحمل العبء مع البشر وأبعث الحياة إن موتي انتصار.. * بل إن الموت قد رأى فيه البعض وصفة وأمنية كما يقول أبو الطيب المتنبي: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا مشاهد.. ووصايا * من وصية أبي فراس الحمداني لابنته: أبنيَّتي لا تجزعي كل الأنام إلى ذهاب نوحي عليَّ بحسرةٍ من خلف سترك والحجاب قولي إذا كلمتني فعييت عن رد الجواب زين الشباب أبو فراس لم يُمَتَّعْ بالشبابِ.. * ومن وصية لبيد لابنتَيْهِ: إذا حان يوماً أن يموت أبوكُما فلا تَخْشما خدًّا ولا تحلقا شَعَرْ وقولا: هو المرء الذي ليس جاره مضاعاً ولا خانَ الصَّديق ولا غدرْ إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكي حولاً كاملاً فقد اعتذرْ ومن وصية لبيد لابن أخيه (حيث لم يكن له ولدٌ)، وكان يعامله كابن له: إذا قُبض أبوك (يقصد نفسه) فأقبله القبلة، وسجِّه بثوبه، ولا يصرخنّ عليه صارخة، وانظر جفنتيّ اللتين كنت أصنعهما فاصنعهما ثم احملهما إلى المسجد، فإذا سلم الإمام فقدِّمهما إليهم، فإذا طعموا فقل لهم فليحضروا جنازة أخيهم، ثم استرسل بعد ذلك شعراً نورد منه هذه الأبيات: فإذا دفنت أباك فاجعل فوقه خشباً وطينا وسقائفاً صماً رواسبها يسددن الغصونا ليقينا حرّ الوجه سفساف التراب ولن يقينا * والحطيئة يموت على حماره.. عندما دخل الحطيئة في النزع، واستيقن أهله أنه على عتبة الآخرة، قالوا له: ما وصيتك؟ فقال: ويل للشعر من رواة السوء.. فقالوا: ويحك! أهذه وصية؟ أوصِ بما ينفعك عند ربك يوم تلقاه. فقال: من هو القائل: لكل جديد لذة غير أنني رأيت جديد الموت غير لذيذ قالوا له: إنه ضابئ بن الحارث البرجمي. فقال: قولوا لقومه: إنه أشعر العرب. وبعد أخذٍ ورد طلب منهم أن يحملوه على حماره: (وتسندوني على ظهرها، فوالله ما مات كريم قط على ظهر حماره). فلم يَرَ القوم بداً من إنفاذ طلبه، فأركبوه على حماره، وجعلوا يذهبون به ويجيؤون حتى مات وهو يقول الشعر. الموت بغير الوعي.. ويصوغ أحمد الصافي النجفي هذا المعنى شعراً ويضيف إليه معنى طريفاً بقوله: أحاول أن أموت بغير وعيي مخافة رؤية الموت الخطيرِ ولكني أخاف عليَّ نقصاً بحرماني من الدَّرس الأخيرِ * وصية أبو ريشة لزوجته: عندما شعر الشاعر عمر أبو ريشة بدنو أجله ناول امرأته قصاصة كتب فيها: حبيبتي لا تخبري إخوتي كيف الردّى كيف عليَّ اعتدى إن يسألوا عني وقد راعهم أن يبصروا هيكلي الموجدا لا تجفلي لا تطرقي خشية لا تسمحي للحزن أن يولدا قولي لهم: (سافر) قولي لهم: إن له في كوكب موعدا عندما يبكى الشعراء * ابن الرومي في بكائه على ابنه الأوسط (محمد) يخاطب عينيه: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي بنيّ الذي أهدته كفَّاي للثرى فيا غرة المهدى ويا حسرة المهدي ألا قاتل الله المنايا ورميها من القوم حبات القلوب على عمد توفى حمام الموت أوسط صبيتي فلله كيف اختار واسطة العقد؟! إني وإن مُتِّعْتُ بابنٍ بعده لذكراه ما حنَّت النيب في نجدِ أولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البيّن الفقد لكل مكان لا يسد اختلاله مكان أخيه في جزوع ولا جلد هل العين بعد الفقد تكفي مكانه أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي؟! * وفي مكان آخر يقول: أرى أخويك الباقِيَيْنِ فإنما يكونان للأحزان أورى من الزّند إذا لعبا في ملعب لك لذّعا فؤادي بمثل النار من غيرِما قصد فما لي فيهما سلوى بل حزازة يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي جرير يبكي زوجته ويقول جرير في قصيدة بعد وفاة قرينته: لولا الحياء لعادني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يُزار لا يلبث القرناء أن يتفرّقوا ليلٌ يكرُّ عليهم ونهارُ * وشاعر هجر الديار بوفاة زوجته: وهذا ابن جبير الرحَّالة الأندلسي محمد بن أحمد بن سعيد رحل من غرناطة إلى المغرب ومصر والجزيرة العربية بعد وفاة زوجته أم المجد التي بكاها قائلاً: إذا جنَّ ليلٌ هام قلبي بذكرها أنُوح كما ناح الحمامُ المطوّقُ وفوقي سحاب يُمطر الهمّ والأسى وتحتي بحارٌ بالجوى تتدفّقُ * بكائيات الخنساء على أخيها صخر: أعينيَّ جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجواد ألا تبكيان الفتى السيِّدا طويل النجاد رفيع العما دِ ساد عشيرته أمردا * وفي قصيدة أخرى تبكيه قائلة: ألا يا صخر لا أنساك حتى أفارق مهجتي ويُشَقّ رمسي ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي يُذكّرني طلوع الشمس صخراً وأبكيه لكل غروب شمس وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي * ولما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخنساء: ما أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر. قال: يا خنساء، إنهم في النار. قالت: ذاك أطول لعويلي عليهم. وقالت: كنت أبكي لصخر على الحياة، وأما اليوم فأبكي له من النار. ومعروف أن الخنساء وبنيها الأربعة قد حضروا القادسية، واستشهد أبناؤها جميعاً، ولما بلغها الخبر قالت: الحمد لله الذي شرَّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. وبقي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعطيها أرزاق أولادها الأربعة لكل واحد مائتي درهم حتى قبض، وتوفيت هي في بداية خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه 24ه. في رثاء صفوة الخلق وصفوة الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ورثته وبكته الأمّة، وكان من بين هؤلاء الشاعرة الفصيحة صفية بنت عبد المطلب بن هاشم التي قُتل أخوها حمزة ومُثِّل به في غزوة أحد، ومن قولها ترثي نبيَّنا الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم: ألا يا رسول الله كنتَ رجاءنا وكنتَ بنا براً ولم تكُ جافيا وكنتَ رحيماً هادياً ومعلماً ليبكِ عليك اليوم مَن كان باكيا فدى لرسول الله أمي وخالتي وعمي وخالي ثم نفسي وماليا فلو أن رب الناس أبقى نبيَّنا سعدنا ولكن أمره كان ماضيا عليك من الله السلام تحيةً وأدخلت جنّات من العدن راضيا * وهذه أمٌّ من هول مُصيبتها على ابنها تمنَّت لو تحوَّلت كل الأرض إلى مقابر!! حيث نجد في بعض البكائيات والمراثي ما يشبه تعميم الحزن، وفي مثل هذا المعنى ترثي إحدى الشاعرات ابنها فتقول: من شاء بعدك فلْيَمُتْ فعليك كنت أحاذر ليت المنازل والديار حفائر ومقابر * عندما يبكي المجرِّب يأتي البكاء مفعماً بالحكمة والأحزان: يقول لبيد بن أبي ربيعة في رثاء أخيه (أربد): فلا جزع إن فرق الدهر بيننا فكل فتى يوماً به الدهر فاجع وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن تُردَّ الودائع أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أخبر أخبار القرون التي مضت أدبّ كأني كلما قمت راكع لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطّير ما الله صانع * والأستاذ عبد القدوس الأنصاري يرحمه الله الذي يعدُّ أحد أبرز علماء اللغة والآثار في المملكة العربية السعودية وأحد الرواد الذين اضطلعوا بمهمة التعريف بالأدب والفكر السعودي كأديب وصحفي وشاعر يقول في هذه الحياة في قصيدة طويلة رثى بها أستاذه السيد أحمد أبادي: الحزن يشمل والتجلّد شارد والدمع منهمر من الأطوادِ لبس الزّمان بفقد أحمد حلة سوداء جلَّلها بثوب حدادِ إلى أن يقول: عشْ ما تحب كما تحب محاذراً فالموت للأحياء بالمرصادِ وحياة هذا الناس ظل زائل يعشو بها سارٍ ويضحي غادِ وهي قصيدة طويلة زاخرة بالحكمة.. نهاية حتمية أجل إن الموت هو تلك الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان، وفي هذا يقول المتنبي: لقد فارق الناس الأحبة قبلنا وأعيا دواءُ الموت كلّ طبيبِ سُبِقْنا إلى الدّنيا ولو عاش أهلها مُنِعْنا بها من جيئة وذهابِ * أو كما يقول ابن نباتة: مَن لم يمت بالسّيف مات بغيره تتعدّد الأسباب والموت واحد * وقد قال كعب بن زهير: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول * وعبثاً محاولة دفع الموت أو إرجائه إذا دنا أجل امرئ، فهذا ابن سناء الملك يقول باكياً جاريته: ودافعت عنك الموت بالطّب جاهداً وذا غلطٌ هل يُدفع الموتُ بالطّبِ؟! ويعلن خسرانه في هذه الحرب بقوله: أعيا دواء الطب في سقمه والموت داء ما له من دوا * ولا أحد بمنأى عن الموت، أو كما قال أبو العتاهية: هلك المداوي والمداوى والذي جلب الدواء وباعه ومَن اشترى * أجل لا شيء يَرِدُّ الأجل، هذا شيء معروف لكل الناس وليس فقط لأبي ذؤيب الهذلي وهو القائل: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمةٍ لا تَنفعُ * وأخيراً هل أقول كما قال صاحب نزهة المشتاق الشريف الإدريسي: ليت شعري أين قبري ضاع في الغربة عمري؟ لا.. سأُقبل على الحياة بكل مباهجها كأنني فيها خالد أو مخلد.. وسأعمل لآخرتي صبحي والمساء كأنني على موعد مع منيتي في غدي.. مسك الختام {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}سورة البقرة. * يوسف أبو عواد عضو الاتحاد العام للصحفيين العرب