تنتهك إسرائيل كعادتها كل المواثيق والأعراف الدولية وتضربها بعرض الحائط، لتطلق عملية أمطار الصيف في غزة فتقصف الجسور، وتحتل مطاراً هو أصلاً في حالة يُرثى إليها، وتدمر محطة لتوليد الكهرباء لتغرق أجزاء كبيرة من قطاع غزة في الظلام. وأما ليل الاحتلال الإسرائيلي وعنفه فيحصد خلال ثلاثة أسابيع فقط ثمانين شهيداً ومائة وخمسين جريحاً، وما زال عدَّاد القمع الوحشي مفتوحاً. كانت سويسرا التي راعها تدهور الحالة الإنسانية، وبصفتها الأمينة لاتفاقيات جنيف (ولا سيما المادة الثالثة والثلاثين من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، وكذلك الاتفاقيات الأخرى التي تحرم الاستهداف المتعمد للخدمات والمنشآت الضرورية للسكان المدنيين كمنشآت تصفية المياه ومحطات توليد الكهرباء)، قد أشارت إلى انتهاك إسرائيل للقانون الدولي بشكل واضح بفرضها عقوبات جماعية على الشعب الفلسطيني بعد أسر الجندي جلعاد شاليط. وكذلك مضى البيان الحكومي السويسري للقول: (إن تدمير محطات توليد الطاقة الكهربائية ومهاجمة مكتب رئيس الحكومة الفلسطينية والاعتقال الكيفي والتعسفي لعدد كبير من الوزراء وممثلي الشعب الفلسطيني المنتخبين ديمقراطياً كلها تصرفات لا يمكن تبريرها)، ويجب ألاَّ ننسى أن الانتخابات الفلسطينية الديمقراطية التي كانت من ثمار اتفاقيات أوسلو التي خطَّها اليهود مع فتح سابقاً هي التي أوصلت حماس لسدة السلطة، حتى ولو فاجأ ذلك إسرائيل والعالم بأسره. ذهبت إسرائيل إلى أبعد من ذلك في تصدير أزمة جنديِّها الأسير باتهام سورية بضلوعها، ومن ثم اختراق الطائرات الإسرائيلية للأجواء السورية والتحليق فوق قصر الرئيس السوري في اللاذقية شمال سوريا، وذلك كي تضغط سورية على خالد مشعل (رئيس المكتب السياسي لحماس) للإفراج عن الجندي الإسرائيلي. ولم يقف الهلع الإسرائيلي عند هذا الحد، بل دفع بأولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى اعتقال مسؤولي حماس الذين يمثلون القيادة السياسية الفلسطينية المنتخبة؛ كي يكونوا ورقة ضغط على حماس من الداخل. وأما الولاياتالمتحدةالأمريكية فكعادتها اعتبرت أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وذكرت أن على حماس تحمل مسؤولياتها؛ لأن مسلحين على علاقة بها هم الذين اختطفوا الجندي الإسرائيلي، وعلى رغم كل المناشدات الدولية وحتى حكومة حماس لمجلس الأمن فيكفينا أن نعرف أن الحماية الأمريكية بصولجان الفيتو الذي طالما عطَّل العدالة في مجلس الأمن قد تم استخدامه 50 مرة للحيلولة دون صدور قرارات تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ولصالح إسرائيل من أصل 80 استخداماً للولايات المتحدةالأمريكية لحق الفيتو؛ لذلك لا جدوى من تحريك الموضوع على مستوى مجلس الأمن. إن احتجاز الجندي الإسرائيلي هو الامتحان الأول لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت منذ استلامه منصبه رسمياً في إبريل المنصرم، وعلى رغم أن أولمرت لم يستلم سابقاً أي منصب قيادي في الجيش الإسرائيلي إلا أن حلَّه العسكري ذا العيار الثقيل بالتوغل في غزة كان هدفه الأول هو تأليب الرأي العام الفلسطيني من الداخل على حكومته حماس لكي تفلس حماس سياسياً، ومن المعروف أيضاً أن شعب إسرائيل يحاسب زعماءه وفقاً لقدراتهم على التعامل مع الأزمات العسكرية، وعلى أولمرت أن يظهر بمظهر القوي، لذلك كانت قبعة الأسير الإسرائيلي الحجة العسكرية للتوغل في غزة. وامتحان أسر الجندي يضع أولمرت بين فكي كماشة، فإن تصرَّف بحزم يمكن أن يخسر حياة الجندي، وإن لم يتصرف بحزم يمكنه أن يخسر الرأي العام الإسرائيلي، وهو الأهم في قاموس السياسة. إن الاستعمال المفرط للقوة هو أكبر دليل على الإفلاس السياسي لحكومة إسرائيل الجديدة، فبعد أن تنامى التكيُّف الدولي والمحلي على وجود حماس بالسلطة، واستطاعت بصمودها أن تفكِّك بعض قضبان الحصار عليها، فاستوعبت التهديد الداخلي، وقامت بتعديل وثيقة الوفاق الوطني بما لا يضرُّ بثوابتها، واستخدمت معبر رفح لإدخال الأموال؛ أتى المخطط الإسرائيلي بهدف تقويض حكم حماس، وقطع الطريق عليها بضرب الوفاق الداخلي؛ لإعادة التشكيك بشرعية المقاومة الفلسطينية، وربط حماس بمنظومة الإرهاب، وخلط أوراقها السياسية بالأمنية، ودفع حماس لمقايضة الأسرى الجُدد (نوابها) بالجندي الأسير، وإعادة رسم خريطة قطاع غزة بما يؤدي إلى تقسيمها، وشلّ قدرة الفلسطينيين على تهديد المدن الإسرائيلية القريبة من مرمى صواريخ القسام. إن معادلة الجندي الأسير هي معادلة عسكرية شرعية بالدرجة الأولى على رغم مدلولاتها السياسية العميقة؛ لأنها جاءت ضد جنود في موقع عسكري، وهذه نقلة نوعية للمقاومة الفلسطينية من دائرة ضرب المدنيين برمي صواريخ القسام عليهم إلى الندِّية العسكرية والمقاومة وجهاً لوجه، ولكن يمكنها أن تكون بداية الحل إن قبلت إسرائيل بالإفراج عن العشرة آلاف أسير فلسطيني (رجالاً وشيباً ونساءً وأطفالاً) القابعين في سجونها مقابل الإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شليط، وهكذا تكون عقبة الأسرى قد زالت من نقاط الخلاف السياسية بين الطرفين، ولكن هذا إن أرادت فقط إسرائيل الحل السلمي، فلم لم يعد هناك شيء تخسره حماس، ولا سيما أنها حاولت وما زالت خوض غمار السلطة لتصلح سياسياً، فتكون حكومة مقاومة وأعطت هدنة، ومركب عدوان إسرائيل ستغرق في الرمال المتحركة لغزة؛ حيث إن السلاح بات مكدَّساً فيها والمقاومة تغلي. إن إفلاس عملية أمطار الصيف لن تسقي النفوس الفلسطينية إلا مرارة اليأس التي لطالما حوَّلت العديد من الشبان والشابات إلى قنابل بشرية موقوتة تتمنطق العمليات الانتحارية فتتأزم وتشتد عقدة الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، وذلك لأن كلاً يشد طرف العقدة عكس الآخر. قصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والدور الأمريكي فيه تشبه إلى حد كبير قصة شعبية كانت ترويها الجدات في الأحياء، ومفادها: أن نمراً مستبداً كان كلما مرَّ الحصان من أمامه يناديه ويسأله: لماذا لا ترتدي القبعة؟ ويتعجب الحصان ويرد على النمر قائلاً: عفوك يا سيدي، ولكن الأحصنة لا تعتمر القبعات، ولم أسمع أبداً أن حصاناً ارتدى قبعة من قبل، فيغضب النمر ويزمجر قائلاً: أتعارضني أيها الحصان، ويضربه ضرباً مدمياً. وكان الحصان المسكين يصرخ في كل مرة ويستجدي، ولكن لا حياة لمن تنادي، حتى قرَّر أن يذهب لملك الغابة (الأسد) يوماً مشتكياً ويعرض قضيته عليه؛ لعله يحلّ له قضيته ويعيش في سلام. وشرح الحصان قضيته لملك الغابة، فضحك الملك ووعد الحصان أن يجد له حلاً. فاستدعي النمر لمجلس الملك، وسأله بلطف: لماذا تفعل ذلك بهذا الحصان المسكين؟ فشرح النمر حُجَّته بأن الحصان يغيظه لتعاطف كل مَن في الغابة معه؛ لذلك فكَّر إن هو أكله أضحى الحصان شهيداً بطلاً في أعين جميع أهل الغابة، ولا سيما الأحصنة، ولاجتمعوا عليه وقتلوه؛ لذلك وجد القبعة ذريعة حتى يدفع الحصان لترك الغابة. وذكَّر النمر الأسد بحادثة أكله للجمل بحجة أنه يعزف على آلة الناي ويزعجه طول الليل قائلاً: وهل سمعت يا ملك الغاب عن جمل يعزف على الناي؟ وردّ الأسد على النمر قائلاً: لكن الأرض التي يسكنها الحصان ليست أرضك، فردَّ النمر: ولكنها مليئة بالخيرات، وسأعقد معك صفقة يا صديقي الأسد، وهي أن تتركني أضرب الحصان مقابل أن تأتي أرضنا وتأكل منها ما تشاء. فوافق الأسد على هذا العرض، وقال للنمر: ولكن أرجو أن تجد ذريعة أقوى من القبعة لضرب الحصان، كأن تطلب منه أن يحضر لك تمراً، وحين يحضر لك التمر الأصفر تضربه وتقول له: كنت أريد الأحمر، وهلمَّ جراً. فاقتنع النمر، ولما رأى الحصان في اليوم التالي قال له: أريد تمراً، فسأله الحصان: وهل تريد التمر الأصفر أم الأحمر؟ فقال له النمر: لماذا لا ترتدي القبعة؟! وضربه..!! (*) [email protected]