الشمس قابعة في الفلك ترسل أشعتها المتوهجة إلى الأرض فتزيدها حرارة وضيقا، والناس بين غاد ورائح، كل يسرع في خطاه ولا يبالي بها، يتصبب على جبينه من العرق الذي خرج نتيجة السرعة والكدح. وقفت أنا وصديقي نتأمل هذا المنظر العجيب وما يبدو فيه من الحركة المستمرة والضجيج الغاضب.. بيع وشراء.. أخذ وعطاء.. هذا إنسان واقف وبيده أشياء يهم برفع صوته: كم (نسوم)؟.. وهذا رجل في حانوته ومعه المتر وقد أخذ قطعة من قماش والناس عليه قد تزاحموا يساومونه ويطلبون منه تخفيض السعر وهو مُصرّ على أنه لا يلين، كأنه لمس حاجتهم إليه. حقا إنه مشهد عجيب، وقفنا نتأمله برهة.. قال صاحبي إنها الدنيا يلهث الناس في طلبها، وصمت قليلاً منتظراً مني كلاما، ولكنني اكتفيت بالسكوت، فأردف قائلاً: لقد صدق والله الأثر القائل (لا يملأ بطن ابن ادم الا التراب)، قال ذلك وتزحزح من مكانه إلى سوق ضيق متعرج ينتهي إلى مكان واسع، قال لي صديقي إنه يبيع البرسيم، فشدني حب الاستطلاع إلى أن أقف بين ردهاته وأنا أتأمل ما بين جانبي فلا أرى الا كهولا قد أكل الزمان عليهم وشرب، قليلاً ما ترى ثمة رجلا تبدو عليه سيما الشباب. وقفنا عند أحد الباعة وكان أكثرهم زحاماً وأشد رواجا لبضاعته وذلك لموقع دكانه (الاستراتيجي) ولطيب برسيمه المشهور بطراوته وسلامته من الأمراض، وما زلنا نتأمل بيعه معهم حتى وكزني رفيقي بيده، وهو يشير ويقول: ألا تنظر إلى هذا الرجل؟ فقلت نعم، ووقفت أتأمله فاذا هو كهل قد شاخ وبانت عليه علامات الشيخوخة من تقوس للظهر وتجاعيد في الوجه ورقة في الجسم.. إلخ، وما زلت أكرر النظر إليه وأتمعنه، فاذا صاحب الدكان قد رفع حزمة برسيم كبيرة وبواسطة تعاونه مع أحد الناس استطاعا تمكينها فوق ظهر الشيخ فرأفت به وقلت مسكين، فسحبني صاحبي وخطاه تتجه إلى الجهة التي سار فيها ذلك الكهل، فعلمت انه يريد متابعته ونحن نتأمله من بين الناس، فلا نعرفه إلا بحزمته الكبيرة حتى راعنا سقوطها وذلك لاصطدامها بإحدى الأخشاب التي في الجدار، فوقف وقد تنفس الصعداء وهو يقول لا إله إلا الله، ويتلفت يمنة ويسرة فعرفنا انه يريد المساعدة فحملناها معه وقفلنا راجعين. قلت لصاحبي من هذا الرجل؟ فضحك ولم يجبني، فأعدت عليه السؤال فقال: لو عرفته لازددت ترحما أكثر مما أنت عليه الآن، فقلت عجبا لقد عيل صبري فقل.. قال إن الذي ترى هو أحد أغنياء هذه البلاد، ومن المشهورين فيها، ولكن حب الدنيا وصل به إلى ما ترى. قلت أصدقا ما تقول؟ قال: كل الصدق قلت لله، هؤلاء الناس ما أشد بخلهم وأكثر طمعهم وماذا يؤملون في الدنيا وهم منها على طرفي نقيض، أيريدون زيادة على ما هم عليه الآن، قسما بالله انه النقص وعينه ولكنها سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وما زلت أسير وأكرر هذه الأبيات: 1إذا درت نياقك فاحتلبها فما تدري الفصيل لمن يكون وان هبت رياحك فاغتنمها فما تدري السكون متى يكون