لم يكن يوم 25 يناير 2006م يوماً عادياً في حياة الشعب الفلسطيني، وإنما كان عرساً ديمقراطياً ويوماً مفصلياً في تاريخ الشعب الفلسطيني وبناء سلطته الوطنية كخطوة على طريق تحقيق الحرية والعودة وتقرير المصير وبناء دولة فلسطين الديمقراطية المستقلة. لقد غبط كثير من العرب أشقاءهم الفلسطينيين على هذا النموذج الذي توجته السلطة الفلسطينية بالشفافية والديمقراطية وإرساء مبدأ تداول السلطة حيث تعهدت حركة فتح بنقل سلس للسلطة التي أسستها وقادتها لمدة اثنتي عشرة سنة بدون تردد، وذلك احتراماً لإرادة الشعب الفلسطيني وتثبيت نهج الديمقراطية السياسية في النظام السياسي الفلسطيني الوليد ونواته السلطة الوطنية. وقد قلنا وكتبنا وقال وكتب غيرنا في حينه إن هذا التاريخ سوف يكون له أثره البالغ على الحركة الوطنية ومجمل القضية الفلسطينية سلباً أو إيجاباً، وإن ذلك يتوقف على قدرة الحركتين العملاقتين فتح وحماس على استثمار هذا الحدث السياسي الكبير واستنباط القواسم المشتركة فيما بينهما والتي يتوافق عليها الشعب الفلسطيني وقواه الحية والفاعلة لأجل تحقيق وإنجاز أهدافه الوطنية المرحلية في التغيير والإصلاح وإنجاز الاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.. الخ من متطلبات أهداف المشروع الوطني الفلسطيني، وأشرنا إلى أن هذه القواسم المشتركة أكبر وأعرض بكثير من التباينات التي يسعى البعض إلى إبرازها بينهما وتضخيمها لتغطي على المشهد السياسي الفلسطيني التعددي لأجل استبعاد مشروع السلطة الائتلافية وحكومة الوحدة الوطنية التي هي نقيض الاستحواذ السياسي، وسياسات الإقصاء والتهميش للقوى الأخرى والتي يجب أن تشترك فيها حركتا حماس وفتح ومعهما بقية الفصائل السياسية والوطنية الفلسطينية لأن الوحدة الوطنية والحكومة المعبرة عنها تمثل الصخرة الكأداء التي تتحطم عليها مشاريع السلام الوهمية والخطط الالتفافية والانطوائية التي تستهدف حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وإنجازاته الوطنية!!!!! لقد خاب ظننا وأمل الشعب الفلسطيني عندما انقضت المدة اللازمة للتشاور لتشكيل الحكومة ولم تستطع خلالها حركة حماس من جذب حركة فتح أو أي من فصائل العمل الوطني للمشاركة في الحكومة الفلسطينية العاشرة والسبب لم يعد خافياً على أحد إنها القيود الأيديولوجية والسياسية التي وضعت حركة حماس نفسها أسيرة لها منذ انطلاقتها وإلى الآن ولأن كانت مبررة تلك القيود الأيديولوجية والسياسية عند انطلاقة حركة حماس عام 1988م وما بعد ذلك لتبرر وجودها في ساحة المقاومة ولاعتراضها المبدئي حينذاك على عملية السلام جملة وتفصيلاً ورفضها المطلق لأية تسوية سياسية مرحلية أو نهائية لا تؤدي إلى إنهاء الكيان الصهيوني الغاشم فوق أرض فلسطين وتطهيرها من اليهود الذين وفدوا إليها طيلة فترة الاغتصاب.. الخ من الأهداف والشعارات المطلقة التي واصلت حماس التعبئة الشعبية على أساسها، إلا أنه لم يعد الآن مبرراً لها أو مقبولاً منها أن تبقى حركة حماس أسيرة لهذه القيود الجامدة والشعارات المطلقة، طالما قررت التعاطي مع الشأن السياسي اليومي والمرحلي للشعب الفلسطيني المتشابك مع العدو ومع جهود السلام والسعي للتسوية السياسية حسب فهمها وبرنامجها، وقد دخلت فعلاً في هدنة من طرف واحد منذ ما يزيد على عام كامل في 17-3-2005م وكانت الأكثر التزاماً بها وقد شاركت في انتخابات المجالس البلدية والقروية وأخيراً في الانتخابات التشريعية والتي حققت فيها فوزاً مفاجئاً لها ولكثير من المراقبين وبعد هذا التعاطي السياسي المبرمج والممنهج من حماس وغيرها من القوى الفلسطينية والذي جرى بمراقبة ومتابعة من قوى إقليمية ودولية لهذه الممارسة السياسية الدالة على تحويل وتغير في فكر وأسلوب حماس، فهل حركة حماس تسير في عملية تخدع فيها نفسها وشعبها الفلسطيني؟!!! أم أنها تخدع بها هذه القوى الإقليمية والدولية لأجل إسقاط مشروع التسوية نهائياً عبر العمل من داخل أطره؟! لقد لاحظ جميع المراقبين أن تحولاً واضحاً في ممارسة حركة حماس السياسية قد بدا واضحاً وأن إمكانية دمجها في الجسم السياسي الفلسطيني بدءاً من دمجها بالسلطة وانتهاء بدمجها بمنظمة التحرير الفلسطينية على أساس المواثيق والمبادئ السياسية العامة التي باتت تحكم مكونات هذا النظام السياسي الفلسطيني على مستوى م.ت.ف وعلى مستوى السلطة الوطنية الناتجة عن اتفاقات أوسلو منذ أكثر من عامين قبل استشهاد الزعيم المؤسس لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين قد أعطت الحركة إشارات داله على ما يمكن أن يتطور إليه برنامج حماس السياسي فأشار إلى إمكانية الهدنة الطويلة الأمد مع العدو في بعض تصريحاته بل أشار أيضاً إلى إمكانية القبول بحل مرحلي يقود إلى دولة فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل، وما تلا ذلك من حوار في القاهرة بين الفصائل الفلسطينية على أرضية سياسية تقوم على أساس دمج كافة القوى الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس في الجسم السياسي الفلسطيني بكل مكوناته من سلطة إلى مؤسسات م.ت.ف وإشراكها في العملية السياسية الجارية، هل تم كل ذلك التوافق على أساس رفض اعتراف حركة حماس ب م.ت.ف ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني؟! أو على أساس رفضها لوثيقة الاستقلال الفلسطيني؟! التي تمثل محل إجماع فلسطيني منذ ثمانية عشر عاماً وعلى أساس رفض الشرعية الدولية أيضاً؟! التي تثبت الكثير من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حق العودة وحق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.. الخ ألا تمثل هذه الشرعية الدولية داعماً وركيزة لنضال وجهاد شعبنا من أجل استرجاع حقوقه المغتصبة ولو جزئياً؟!!! فكيف يمكن لحركة حماس ومعها بقية الفصائل الوطنية القفز على مثل هذه المبادئ السياسية التي أنجزها وجسدها نضال الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من خمسة عقود؟!!! لذلك فإن حركة حماس تتحمل اليوم المسؤولية السياسية الكاملة عن المأزق السياسي الذي وضعت نفسها فيه ووضعت فيه معها الشعب الفلسطيني ومجمل حركته الوطنية، فأصبحت مطالبة من قبل العالم بما لم تطالب به بقية الفصائل من قبل مثل الاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقات الموقعة معها من قبل م.ت.ف أو السلطة الفلسطينية وقد كانت في غنى تام عن الزج بنفسها في هذا المأزق السياسي الحاد وفي حالة من البروبوغندا السياسية لو أقرت بمثل تلك البديهيات السياسية السالفة لأجل أن تجد لنفسها تغطية سياسية وطنية وقومية وإسلامية ودولية لمشروعها في قيادتها للسلطة الوطنية ومشاركتها للقوى الفلسطينية الأخرى في العملية السياسية الفلسطينية بكل أوجهها وتجلياتها الداخلية والخارجية على السواء بعيداً عن الأجواء السياسية الاستعراضية، سواء من حيث إدارة الشأن اليومي للشعب الفلسطيني أو إدارة الصراع مع العدو سواء على مستوى المقاومة أم على مستوى المفاوضات وعدم الوصول بالأمر بها إلى اللامقاومة واللامفاوضة والتي تمثل الوضع الأمثل بالنسبة للسياسات التي تسعى إليها حكومة إسرائيل وحلفاؤها وإلى فرضها على الجانب الفلسطيني، ولكن حركة حماس اختارت الظهور بمظهر التقوقع في أيديولوجيتها الدينية والمتشبثه ببرنامجها السياسي المبني عليها لاعتقادها أن اندماجها في الجسم السياسي الفلسطيني إنهاء لحالة التفرد والتميز التي تمتلكها وسوف يمثل ذلك في نظرها خيانة منها لأيديولوجيتها وهزيمة لبرنامجها السياسي المقفل والموصد عليها وكأنها تمتلك الحقيقة وحدها والرؤية الإلهية الصائبة والمقدسة والتي لا تحتمل الحوار أو النقاش، وهذا ما يفسر بقاء حركة حماس طيلة هذه السنوات الثماني عشرة خارج إطار م.ت.ف منذ تأسيسها فهي إذن سوف لا تعترف ب م.ت.ف إلا إذا كانت من تفصيلها وعلى مقاسها هي وحدها ولذا وجدت نفسها في حالة تعارض دائم مع م.ت.ف من قبل أن تنتقل الأخيرة إلى مرحلة التسوية السياسية ومرحلة بناء سلطة الحكم الذاتي ومنذ أن كانت حركة حماس جماعة الإخوان وموقفها من هذا الموضوع واضح، لذلك نستطيع أن نجزم بأن حركة حماس اختارت هي بنفسها الانعزال السياسي عن الداخل الفلسطيني السياسي بمحض إرادتها انسجاماً مع استراتيجيتها وفلسفتها ورؤيتها في طرح نفسها بديلاً عن كل مكونات هذا الجسم السياسي الفلسطيني لا مكوناً من مكوناته تقيم علاقة تكامل مع بقية المكونات السياسية الفلسطينية الأخرى، وبالتالي تكون النتيجة أيضاً على المستوى الدولي والخارجي تحصيل حاصل هو عزل سياسي خارجي لحركة حماس، وبالتالي للنظام السياسي الفلسطيني وللقضية الفلسطينية التي تسعى للتفرد بهما، وهذا ما سيضع القضية الفلسطينية في أدنى درجة (من درجات) التأثير السياسي التي مرت بها الحالة الفلسطينية منذ نشأة القضية الفلسطينية وإلى الآن وسوف تكون انعكاساته جد وخيمة على مجمل العمل السياسي الفلسطيني الآني والمستقبلي وعلى الشعب الفلسطيني ومستقبل القضية الفلسطينية برمتها، وسيعطي الذريعة الكاملة وبدون لف أو دوران وبلا أي ثمن يذكر لسياسات العزل الإسرائيلية تجاه الجانب الفلسطيني وللسياسات الأحادية الجانب وسياسات الالتفاف على مكتسبات الشعب الفلسطيني وحقوقه ولسياسات الانطواء التي تلوح حكومة أولمرت بها وستواصل تنفيذها حكومة إسرائيل المقبلة والتي ستحظى في هذه الحالة وفي مثل هذا الوضع الفلسطيني بالتأييد الكامل دولياً، وربما من أطراف عربية مستترة إن لم تكن هناك أطراف فلسطينية في ظاهرها معارضة وفي واقعها مشاركة في تنفيذ مثل هذه السياسات الخطرة من خلال السلبية التي وضعت فيه الحالة الفلسطينية والتي تتهدد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني الآني والمستقبلي، في ظل هذه السياسات التي يرتكز جوهرها على أساس فلسفة العزل السياسي للذات وللآخر في آن واحد معاً، مما يترك المجال سهلاً وخالياً أمام الطرف القوي والذي يملك القوة على الأرض أن ينفذ سياسته تجاه الآخر ويجعل منها واقعاً سياسياً على الأرض!!!! إن على حركة حماس أن تدرك خطورة هذه السياسة الانعزالية داخلياً وخارجياً وأن تعمل على الخروج منها وأن تدرك أن التفويض الممنوح لها شعبياً لإدارة السلطة الوطنية يوم 25 يناير لا يتضمن البته الانقلاب على أسس النظام السياسي الفلسطيني على الإطلاق، وأن الشعب الفلسطيني سيعطي حركة حماس المهلة الزمنية الكافية التي تستطيع من خلالها الانفكاك من قيودها ورؤاها وعزلتها وأن تقدم السياسة الناجحة والرشيدة التي تستجيب فيها لمتطلبات ومصالح الشعب الفلسطيني ووحدته سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وإن لم تتمكن من ذلك وفي الوقت المناسب سوف يقول الشارع الفلسطيني كلمته ثانية وسيكون قادراً على إحداث التغيير السياسي الواجب والنوعي من أجل حماية منجزاته ومكتسباته السياسية والسير نحو تحقيق مصالحه وأهدافه الوطنية، وإن واصلت حركة حماس إظهار عجزها وانعزالها وترددها في خدمة مصالح الشعب الفلسطيني أو ألحقت بها الضرر بسبب قيودها الأيديولوجية أو البرامجية المقلة التي يسعى الجميع لمساعدتها في تطويرها وبغض النظر عن أية ذرائع قد تستخدمها في تبرير عجزها الذاتي الناتج عن عدم قدرتها على التكيف السياسي لخدمة مصالح الشعب الفلسطيني وأهدافه الوطنية سيبدو أن ثمانية عشر عاماً من المقاومة لم تكن كافية لإنضاج حركة حماس وفكرها سياسياً بما يكفي لتحويلها من حركة دينية خيرية إلى حركة مقاومة سياسية واعية تحسن قطف ثمار نضالها ونضال شعبها في الوقت المناسب قبل ضياع الفرصة؟!! E-mail:[email protected]