يكاد المرء يقف حائراً إذا ما أراد أن يقدم للقارئ الكريم شخصية فكرية مثل شخصية دينيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي.. ويشعر بالحيرة أكثر حتى يتصبب منه العرق إذا ما أراد أن يوجز فلسفته وفكره في مقالة صغيرة ترضي طموح القارئ وشغفه.. كثيرون صدروه صفحات كتبهم.. وجمهرة أكثر من جهابذة العلم والفلسفة ألبسته ثياب الشخصية العتيدة في مجال الفكر الفلسفي والرياضي والأخلاقي.. كثرة من الأقلام تناولته دراسة وتمحيصاً.. تحاول أن تستكنه فكره، وأن تصل إلى أعماق فلسفته.. حتى إن بعضهم اصطنع مناهج معينة لدراسة فلسفته.. ولعل من أبرز هؤلاء الدكتور عثمان أمين الذي اتخذ من منهجه (الجواني) طريقاً لمعرفة أصول الفلسفة الديكارتية.. وغيره كثيرون انكبوا على دراسة فلسفته وترجمة كتبه من الفرنسية إلى سائر اللغات علامةً بارزةً على أهمية ما كتبه وعلى عطائه الجزيل وأنه بلا منازع (أبو الفلسفة الحديثة).. حتى إننا لا نبالغ كثيراً إذا قلنا: إن الفلسفتين الحديثة والمعاصرة إنما هي رد عليه، سواء كانت تؤيده وتنحو نحوه أو تعارضه وتقف في مواجهته.. أما عن فلسفة ديكارت وفكره الفلسفي فالهدف عنده أن يصل إلى (يقينيات)؛ أي أنه يريد معرفة يقينية لا يتطرق إليها الشك.. أدنى شك.. من قريب أو بعيد.. كيف لا وهو الذي اصطنع منهج الشك لكي يوصله إلى تلك المعرفة اليقينية!! فالعقل البشري عنده أشبه ما يكون بسلة من التفاح تحتوي الجيد والفاسد منه.. وإذا أردنا أن نفرز الجيد من الفاسد ونحافظ على جودته فيجب أن نجد طريقاً لذلك.. فاصطنع ديكارت منهج (الشك) للوصول إلى المعرفة اليقينية التي يطمح إليها، ولكن يجلِّي بينها وبين المعرفة (الظنية) الفاسدة. أما عن المجال الذي يريد ديكارت أن يثبت فيه تلكم المعرفة اليقينية فهو مجال (الوجود): وجود النفس أو (الأنا).. وجود الله جل وعلا.. ثم وجود العالم الخارجي. من أجل ذلك اصطنع ديكارت منهجاً أو طريقاً يوصله إلى المعرفة اليقينية.. وهذا المنهج هو منهج (الشك).. ومهما قيل عن منهجه فسيبقى مجرد طريق يعبرها أو وسيلة توصل إلى غاية، وهذه الغاية هي المعرفة اليقينية التي يطلبها في شتى المجالات.. وانصبَّ الشك الديكارتي بشكل رئيس على كل معرفة وصلت إلينا من الحواس.. إنه يسحب شكَّه على كل معرفة متوارثة.. وعلى كل معرفة ترسبت في أذهاننا بطريق الحسي.. وذلك لسبب بسيط هو أن الحواس كثيراً ما تخدع صاحبها، سواء في مجال السمع أو البصر أو اللمس... إلخ.. إذن يجب أن نشك في المعرفة التي وصلت إلينا عن هذا الطريق.. وكل معرفة نصدقها وجاءت إلينا بطريق الحس فهي معرفة (ظنية) لم تصل بعد إلى مرحلة اليقين الذي يطلبه ديكارت.. إذن يجب أن نشك في كل ما هو ظني.. وشرط المعرفة اليقينية عنده أن تصل إلى درجة (البداهة) ثم (الوضوح) و(التميز)، فهو يقول: (يجب عليَّ ألا أسلم بشيء على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك)، وهذا يتطلب تجنُّب التسرع في إصدار قراراتنا بصدد المعرفة، كما يستوجب التريث والتمحيص في مصدر المعرفة. ويبدأ ديكارت شكَّه في كل معرفة وصلت إليه عن طريق الحس.. لكنه في النهاية تبين أنه (يشك) وأن من يقوم بعملية الشك أو (يشك) لا بدَّ أنه يقوم بعملية أخرى في نفس الوقت، وهي عملية (الفكر).. إذن بما أنني (أشك) إذن أنا (أفكر).. فالشك والفكر عمليتان متلازمتان، ولا يمكن لإحداهما أن تنفك عن الأخرى.. بالضبط كقانون السببية أو العلية؛ حيث يتواجد المعلول إذا وجدت العلة، وبالعكس إذا انتفت.. وما دمت (أفكر) إذن أنا (موجود )، لسبب بسيط جداً هو أنني (أنا) الذي (أفكر) وأقوم بعملية التفكير.. أنا أفكر إذن أنا موجود. . وهو هنا يستمد وجوده ويثبته من الفكر.. إذن الفكر والوجود عمليتان متلازمتان أيضاً.. الفكر يستدعي الوجود.. وهذا ما سماه ديكارت (الكوجيتو)؛ أي إثبات وجود النفس أو (الأنا) من الفكر. والكوجيتو هي الدعامة الأساسية والركيزة الأولى التي تقوم عليها الفلسفة الديكارتية.. لقد وصل إلى اليقين بوجوده من كونه (فكراً) أو (يفكر).. وبعد هذا استطاع أن يصل إلى يقينيات أخرى، وبخاصة في مجال إثبات وجود الله سبحانه بالدليل العقلي، وذلك لتكون هذه الأدلة قاطعة وحجة في وجه الملاحدة وفي وجوه كل الذين أرادوا التشكيك في هذا المجال.. أراد ديكارت أن يقول للملاحدة: إذا كنتم لا تؤمنون بوجود الله بالأدلة النقلية حسبما جاءت الشرائع السماوية فهذه هي الأدلة العقلية التي تثبت وجوده تعالى، وليس بين الشرع والعقل اختلاف.. ومن ثَمَّ فإن هذه الأدلة ستبقى تلاحقكم ولن تنفكوا منها حتى تؤمنوا. ثم استبطن ديكارت نفسه فقال: أنا كائن موجود.. وفي ذهني فكرة (الكامل)، بدليل أن نفسي دائماً تتوق إلى الكمال.. لكنني أنا كائن ناقص.. والدليل على هذا أنني لا أستطيع أن أؤمن حاجياتي اليومية البسيطة.. فأنا إذن كائن، ولكنني ناقص، فمن أين جاءتني فكرة الكمال تلك التي تراودني دائماً؟! لا بد أن (الكامل اللامتناهي) هو الله سبحانه.. ولا يمكن أن تبقى فكرة الكمال مجرد فكرة أو نفور في الذهن.. بل لا بدَّ أن تكون موجودة؛ لأن من شروط الكمال (الوجود)؛ أي التحقق الفعلي.. إذن لا بدَّ أن يكون الكامل اللامتناهي موجوداً؛ أي أن الله موجود.. وهذا دليل عقلي. هكذا استطاع ديكارت أن يتدرج بفلسفته خطوة من الشك إلى الفكر.. ومن الفكر إلى الوجود: وجود النفس ثم وجود الله تعالى.. وهكذا أيضاً تمكن بأدلته العقلية أن يصرخ في أذن المشككين والملاحدة: قفوا عند حدِّكم؛ إن الله موجود شرعاً وعقلاً، وكفاكم إضلالاً وتضليلاً. وبعد هذا بدأ ديكارت يتدرج نزولاً ليثبت ما صال وجال فيه شكُّه.. نزل إلى العالم الواقعي الذي يعيشه فأثبته بشرط أن تصل الأفكار في ذهنه إلى مرتبة الوضوح والتميز.. فالمعرفة اليقينية تستلزم الوضوح والتميز لا الإيهام والغموض. تلكمُ مجرد فكرة عن الفلسفة الديكارتية التي بلغت شأواً بعيداً في العمق والدقة.. وبغض النظر عن المآخذ التي أُخذت على هذه الفلسفة فيكفيها أنها جاءت لتقول للشكَّاك والملاحدة أن آمنوا.. وللمؤمنين إن ازدادوا إيماناً. (ديكارت بين الشك واليقين) تحت هذا العنوان ألَّف الأستاذ أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري كتاباً محَّص فيه ودقق فكر ديكارت الفلسفي.. وفي الواقع إنه ليس من السهولة بمكان بيان الفكر الديكارتي الفلسفي، ولا سيما إذا وجد الباحث أو الكاتب نفسه أمام شخصية فكرية عريقة مثل شخصية ديكارت؛ ذلك الفيلسوف الفرنسي الذي ينتقي ألفاظه انتقاءً؛ حتى تأتي كل ألفاظه لتعبر تماماً عما أراد لها صاحبها أن تعبر عنه. ولم يَنْسَ أبو عبد الرحمن في معرض حديثه عن تدرج ديكارت من الشك إلى اليقين أن يستعرض ولو سريعاً (الفلسفة الشكاكية) إن صح التعبير قبل ديكارت.. فعرج المؤلف على (الشك) عند السفسطائيين، ثم وثب ليقف على الشك عند المتكلمين أو أصحاب علم الكلام، ثم وقف على الشك عند الغزالي وأبانه.. كل هذا ليضع الشك الديكارتي في موضعه الجديد. ثم استعرض أبو عبد الرحمن (الشك) عند ديكارت، وبيَّن كيف اصطنع ديكارت الشك وسيلة للوصول إلى اليقين.. وفي النهاية لم ينْسَ أبو عبد الرحمن أن يأخذ مآخذه على الشك الديكارتي. * ولعل من أهم المآخذ التي أخذها مؤلف (ديكارت بين الشك واليقين) التي نود أن نعالجها قوله: (يؤخذ على ديكارت إسرافه في الشك؛ لأنه عطَّل الحواس لخداعها.. والواقع أن خداعها يقتضي الاحتراس منها ولا يقتضي تعطيلها، كما أن المنطق ضمان من الخطأ في الاستدلال، ثم إن افتراض وجود شيطان يضله ويعبث بعقله وقوع في السفسطة، ولهذا ذهب يوسف كرم إلى أن شك ديكارت حقيقي لا مخرج منه - أراد أو لم يرد - وليس مؤقتاً. والواقع أن ديكارت يريد معرفة يقينية؛ لذلك أراد أن يجنب الحواس أن تكون مصدراً للمعرفة أو منبعاً لليقين، لا لشيء إلا لأنها تخطئ.. وخطأ الحواس ثبت بما توصل إليه العقل البشري من أجهزة علمية توفر له معرفة أنصع من تلك التي تقدمها الحواس.. إذن فمعرفة الحواس ظنية وغير واضحة.. وهو - أي ديكارت - لا يريد سوى أن يكون كل شيء واضحاً متميزاً.. صحيح أنه أسرف حين شكَّ في كل ما تقدمه الحواس من معرفة.. واعتبر معرفتها ظنية.. لكن لا مانع ما دام يريد يقيناً واضحاً متميزاً. وأما بالنسبة لافتراضه الشيطان الماكر المخادع فهو افتراض يفترضه ديكارت في رحلته الشكية، وذلك إمعاناً منه في الشك.. ورغبةً في استبعاد كل ما يمكن أن يمده بمعرفة ظنية لا يريدها.. إنه يريد معرفة يقينية وحسب.. ثم إن افتراض الشيطان الماكر يتوقف بعد أن يخرج ديكارت من مرحلة الشك.. وعندما يجد ديكارت نفسه مفكراً.. أو عندما يخرج ديكارت من عملية الشك إلى إثبات وجود الفكر أو التفكير (أنا أشك إذن أنا أفكر) لا يمكن أن يعترض الشيطان الماكر طريقه هنا، وذلك لأنه توصل إلى حقيقة هي (الفكر).. ف(أنا أشك إذن أنا أفكر) هذه حقيقة كبرى لا يمكن لأي شيطان ماكر أن يزعزعها.. وكذلك في سائر اليقينيات التي توصل إليها (يقين النفس أو الأنا)، و(يقين وجود الله جل وعلا)، ويقين (وجود العالم الخارجي). ويذهب المؤلف إلى القول بأن شك ديكارت شك مصطنع، يقول: (يُستفاد من سياق ديكارت أنه قد فرغ من تقارير مذهبه قبل أن يشك، فلم يجئ شكُّه نتيجة أزمة نفسية، وهذا دليل على أن شكَّه مصطنع). ونحن نقول: وهل هذا يضير ديكارت؟ إنه اصطنع هذا المنهج، هذا ما يقدِّره ديكارت.. إنه يريد أن يصل إلى يقينيات عن طريق هذا المنهج.. وما أشبه ديكارت بعالم الفيزياء أو الكيمياء الذي يريد أن يتحقق من فرض افترضه أو من قانون توصل إليه.. إنه رأي العالم الطبيعي.. يصطنع من أجل ذلك (التجربة)، فتراه يخلط هذا الحامض بذلك الصفر أو يضيف مادة ما أو يحذف أخرى.. وهكذا فإنه يصطنع التجربة، وكذلك ظروفها؛ لكي يتأكد في النهاية من صحة فرضه أو عدم صحته.. وهنا فإن التجربة لا تفرض نفسها على العالم، بل إن العالم هو الذي يصطنعها ويهيئ الظروف المناسبة الكفيلة بتحقيق صحة أو بطلان الغرض، فصحيح أن شك ديكارت مصطنع، وفي اصطناعه معاناة.. ولكن فكرية. هذه بعض الملاحظات على مآخذ الأستاذ أبي عبد الرحمن ابن عقيل على المنهج الديكارتي، وهناك ملاحظتان أخيرتان هما: - الأولى هي وعورة اللفظ؛ فقد تخللت الكتاب ألفاظ عديدة يؤخذ عليها وعورتها، ويتضح ذلك في قول صاحب الكتاب: (إسراف ديكارت في افتراض وجود شيطان مخادع من باب التنزل في الاستدلال)، وقوله: (وما رجح بناء على هذه الأمور فهو الحقيقة، لا لأنه يقين تام ليس فيه إذن شك، وإنما لأن الشك فيه مرجوح.. فإن للظن الراجح حكم اليقين القطعي؛ لأن الترجيح قانون عقلي، واطِّراح المرجِّح كالترجيح بلا مرجِّح.. وكلا ذينك سفسطة). وأعتقد أن الكاتب لو استبدل بهذه الألفاظ التي تدقُّ على الفهم في معظم الأحيان ألفاظاً ميسورة وفي متناول أصحاب الثقافات المتفاوتة لأرضى شغف القارئ أكثر ويسَّر له بالتالي مزيداً من الفهم. - الثانية عنوان الكتاب؛ فقد سمَّى الكاتب كتابه (ديكارت بين الشك واليقين)، وهذا يوحي لأول هلة أن ديكارت بقي يتذبذب بين الشك واليقين ولم ينفذ من الشك إلى اليقين، مع أنه توصل من شكِّه إلى عدة يقينيات.. فحبذا لو سمَّى الكاتب كتابه باسم (ديكارت من الشك إلى اليقين). وبعدُ فكتاب الأستاذ أبي عبد الرحمن حول الفلسفة الديكارتية كتاب جيد يعطي القارئ فكرة؛ فقد استطاع أن يوجز فلسفة بأكملها في وريقات قليلة؛ مما أسبغ على الكتاب صورة مشوقة لولا وعورة ألفاظه كما أسلفت. ولعل إيراد هذه الملاحظات القليلة دليل فهم الكاتب للمادة التي تعرَّض لها.